البحث العلمى فى الدول المتقدمة والدول النامية

محمد زهران
محمد زهران

آخر تحديث: الجمعة 25 أكتوبر 2024 - 8:00 م بتوقيت القاهرة

كلما تم الإعلان عن جوائز نوبل أو أية جوائز عالمية أخرى أو كلما ظهر اكتشاف علمى معين يبدأ البعض فى التحسر على الهوة الكبيرة بين الدول المتقدمة والدول النامية، ثم يبدأ النقاش حول الأسباب التى أدت إلى وجود هذه الهوة، ثم يتطور النقاش إلى أمور لا تمت للبحث العلمى بصلة، واستحضر هنا العبارة الطريفة للكاتب الجميل جلال عامر عندما قال: «تبدأ مناقشاتنا بتبادل الآراء فى السياسة والاقتصاد وتنتهى بتبادل الآراء فى الأم والأب».

هذا المقال يتحدث عن البحث العلمى فى الدول المتقدمة والدول النامية، لن يكون حديثنا فقط من نوعية أن الدول المتقدمة هى الجنة ويجب أن نتعلم منهم وأن الدول النامية تواجه تحديات يجب أن تتغلب عليها، بل هناك نقطة تغفلها المقالات العديدة التى ناقشت هذا الموضوع وهو أن هناك أيضا تحديات فى البحث العلمى فى الدول المتقدمة ولا نقصد التحديات العلمية، بل شيئا آخر.

...

البحث العلمى فى بلد مثل أمريكا يتم فى ثلاثة أمكنة:

  • الجامعات: وهذا طبيعى لأن الجامعات تمنح درجات الدكتوراه وهى درجة أساسها البحث العلمى. جدير بالذكر أن فى أمريكا درجة الماجستير لا تعتبر درجة فى البحث العلمى، ولكن تعمق أو زيادة خبرة فى تخصص معين، لذلك يمكن فى أمريكا البدء فى درجة الدكتوراه فور الانتهاء من البكالوريوس، وفى أغلب الجامعات الأمريكية الماجستير تكون مجرد النجاح فى عدة مواد دراسية بدون رسالة.

  • مراكز الأبحاث التابعة للشركات: وتكون عادة فى الشركات الكبرى مثل جوجل ومايكروسوفت وآبل وميتا لأنها تستطيع الإنفاق على بحث علمى قد لا يكون له مردود سريع فى المنتجات أو الخدمات التى تقدمها الشركة. الشركات الأصغر تقوم بالتطوير وليس البحث العلمى. يجب ألا ننسى أن اثنين من الثلاثة الحاصلين على جائزة نوبل للكيمياء هذا العام (2024) من شركة جوجل.

  • مراكز الأبحاث الحكومية مثل مراكز الأبحاث التابعة لوزارة الطاقة وهى الممول الرئيسى لتطوير الحاسبات فائقة السرعة، ومثل معامل أبحاث وزارة الدفاع… إلخ.

البحث العلمى فى الجامعات ينتج أبحاثا منشورة فى المجلات العلمية والمؤتمرات المحكمة. البحث العلمى فى الشركات يتبع استراتيجية الشركة وتكون مخرجاته أغلبها براءات اختراع فى المقام الأول وأبحاث منشورة فى المقام الثانى. أما الأبحاث فى المعامل الحكومية فتهتم بصنع شىء أو ما نسميه (prototype)، ليس البحث المنشور هو المهم هنا، ولكن المنتج. لذلك ومن واقع تجربة كاتب هذه السطور سنركز على البحث العلمى فى الجامعات.

عدد الحاصلين على الدكتوراه فى أمريكا حوالى 2% فقط من السكان وأغلبهم ليسوا من أصل أمريكى، ولكن من الصين والهند وتركيا وإيران… إلخ، وأغلبهم يعمل فى الجامعات. هذا معناه أن قوة البحث العلمى فى أمريكا تأتى من اجتذاب العقول من كل أنحاء العالم حتى الدول التى لا تعتبرها أمريكا من الدول الصديقة وتهيئة المناخ المناسب لهم للقيام بأفضل ما عندهم، لكن هذه النقطة بالذات هى من أهم التحديات.

للقيام بالبحث العلمى فى الجامعة الباحث يحتاج إلى تمويل (fund)، هذا التمويل يأتى غالبا من مؤسسات حكومية مثل (National Science Foundation) أو (National Institute of Health)، وهنا تكمن المشكلة. أمريكا تشجع على التنافس، لكنه تنافس غير صحى، عدد كبير من الباحثين يتنافسون على أعداد ليس كبيرة من التمويل فى أمريكا. كاتب هذه السطور شارك فى عدة لجان من التى تعطى هذا التمويل، فمثلاً تجد تسعمائة من الباحثين يتنافسون من أجل الحصول على منحتين مثلاً أو ثلاثة (التمويل يسمى منحة أو «grant»). عدم الحصول على التمويل معناه عدم القدرة على القيام بالبحث العلمى لأنك لن تستطيع تعيين طلاب يساعدونك فى أبحاثك ولن تستطيع السفر للمؤتمرات والاختلاط بالمجتمع العلمى وتبادل الأفكار، بمعنى آخر عدم حصولك على التمويل يعنى انتهاء مستقبلك العلمى وفى بعض الأحيان معناه انتهاء عملك فى الجامعة، التدريس يأتى فى المقال الثالث بعد الحصول على التمويل ونشر الأبحاث. النظام الأمريكى سعيد بهذه المنافسة الشرسة لأنها تضمن استمرار تدفق الأفكار العلمية المتميزة. لاحظ أن قوة أمريكا الأساسية هى البحث العلمى وله مردود على اقتصادها وجيشها وأجهزتها الأمنية. هذا على المستوى الكبير للدولة، لكن لننظر على المستوى الميكروسكوبى وهو المتعلق بالباحثين. الأساتذة الجامعيون الذين يرغبون فى الاستمرار على قمة هرم البحث العلمى فى الغالب يضحون بحياتهم الشخصية سواء الأسرية أو حتى الصحية من أجل الحصول على التمويل وإنتاج أبحاث تساعد على الحصول على تمويل ثانٍ وثالث… إلخ. قد يقول قائل لكن العمل بجد واجتهاد مطلوب، هذا صحيح لكن الحياة المتوازنة لا تعنى عدم العمل بجد. طبعا فى النظام الرأسمالى البراجماتى فإن الفضول العلمى والتمويل والشهرة والجوائز تأتى فى المقال الأول، لذلك فإن الباحثين يكون نظرهم على الجوائز والشهرة فيضحون بكل غالٍ فى سبيل ذلك.

هناك دول أخرى تحاول إيجاد هذا التوازن ويساعدها على ذلك عدم وجود المنافسة الشرسة لقلة عدد من يقومون بالبحث العلمى وأيضا لوجود النظام الأكاديمى المتوازن مثل كندا وسويسرا، لذلك هناك أعداد من الباحثين يأتون إلى أمريكا للحصول على الدكتوراه ثم القيام بالبحث العلمى حتى الحصول على الجنسية الأمريكية ثم ينتقلون للعيش فى أوروبا. نتيجة هذا التوجه أصبحت (ETH) و(EPFL) من أقوى جامعات العالم فى مجال تكنولوجيا المعلومات وكلتاهما فى سويسرا. طبعا لن نتطرق هنا إلى تحد آخر وهو صعوبة الغربة لأننا أولا تحدثنا عنه فى مقال قديم سابق وثانيا لأن ليس الكل يعانى منه بنفس الدرجة.

ماذا عن الدول النامية؟

...

الدول النامية تواجه عدة مشاكل فى البحث العلمى نستطيع تلخيصها فى الآتى، طبعا كل دولة قد تعانى من إحدى المشكلات أكثر من المشاكل الأخرى، لكل دولة وضعها الخاص:

  • تدنى مرتبات أساتذة الجامعات يجعلهم يعملون فى عدة أماكن من أجل الحصول على ما يكفيهم هم وأسرهم، مما يترك وقتا وجهدا قليلا للبحث العلمى.

  • التدريس يأخذ وقتا كبيرا من الأساتذة فى الدول النامية لأن كل منهم يقوم بتدريس عدة مواد فى الفصل الدراسى الواحد مما يستنزف وقتهم وجهدهم. فى أمريكا الأستاذ يقوم بتدريس مادة أو اثنتين فقط فى الفصل الدراسى، وكل ست سنوات يُعفى من التدريس لمدة تقارب السنة وبمرتب ليستطيع فيها التركيز على البحث العلمى.

  • البيروقراطية الشديدة والتى تؤخر مثلاً استيراد أدوات ومُركَّبات يحتاجها الباحثون وهذا يعطل إن لم يوقف تماما البحث العلمى.

  • الاهتمام بالترقية أكثر من البحث العلمى نفسه.

  • الاهتمام بالعدد أكثر من العمق، أى الاهتمام بعدد الأبحاث المنشورة أكثر من جودة الأبحاث.

  • الاهتمام بترتيب الجامعات عالميا كجزء من القوة الناعمة أكثر من الاهتمام بالتعليم والبحث العلمى العميق، وقد تحدثنا فى مقال سابق عن تصنيف الجامعات ما له وما عليه فلن نعيد ما قلناه هنا.

  • عدم الاهتمام باجتذاب العقول النابهة ورعايتهم سواء من داخل البلاد أو خارجها.

...

ماذا نستخلص من مقال اليوم؟ هناك عدة نقاط مهمة:

  • يجب تهيئة المناخ المناسب للبحث العلمى ليس فقط لأبنائنا، ولكن لاجتذاب العقول النابهة فى الدول الأخرى. هل نستطيع ذلك؟ المكسب ليس هو المصروفات التى سيدفعها هؤلاء الأجانب، ولكن المكسب هو عقولهم.

  • يجب أن ننسى أو نتناسى ترتيب الجامعات فى الوقت الحالى على الأقل ونركز على جودة التعليم من ناحية والبحث العلمى الذى يحل مشكلة ملحة عندنا من ناحية أخرى. بعد وقت ليس بالطويل القوة الناعمة من ترتيب الجامعات والظهور فى المجلات العلمية العالمية سيأتى وحده، فكاتبنا الكبير نجيب محفوظ وصل إلى العالمية بالإغراق فى المحلية.

  • الحياة المتوازنة للفرد تنتج مجتمعا صحيح النفس، قضاء الوقت كله فى العمل وإهمال الصحة والأسرة بحجة أننا «نفعل ذلك من أجل أبنائنا» لن تجعلنا سعداء ولن تجعل الأبناء سعداء أو أسوياء.

المناخ العلمى يقود إلى الرخاء ولو بعد حين، والحياة المتوازنة تؤدى إلى حياة اجتماعية سعيدة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved