السياسة من الميادين إلى المؤسسات
معتز بالله عبد الفتاح
آخر تحديث:
السبت 26 نوفمبر 2011 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
ابتكر التنظير السياسى المؤسسات حتى يمكن وضع ضوابط على سلوك الفاعلين السياسيين حتى لا تنفلت الأمور وتصل إلى درجة الصراع السياسى العنيف. بل توقع التنظير السياسى أن يكون هناك تدافع بين القوى السياسية المختلفة داخل المؤسسات من أجل تقسيم السلطة وتحقيق التوازن والرقابة بينها حتى لا يحدث التدافع خارجها وصولا إلى الثورات.
كلما ازداد النظام السياسى استبدادا سعى إلى ألا يكون هناك تدافع من الأصل، وإنما علاقة تراتبية أبوية تسلطية يصدر فيها الأعلى أوامر للأدنى وعلى الأدنى أن يسلم للأعلى بحقه فى إصدار القرارات بلا تعقيب إلا «تمام يا افندم» وهذا ما يسمى بعسكرة الحياة السياسية، فيبدو الأمر أنه لا فرق بين علاقة رئيس الجمهورية بمجلس الشعب وعلاقة وزير الدفاع بأى وحدة من وحداته العسكرية.
حين يخرج الناس على هذه التقاليد التراتبية ويسعون إلى التعبير عن مصالحهم ومطالبهم فإنهم لا يجدون مؤسسات مستعدة للتفاعل معهم لأنها كلها مؤسسات مصممة لتعمل بأوامر من أعلى إلى أدنى. إذن ما العمل؟ الحل الوحيد المتاح هو الخروج على هذه المؤسسات وتدميرها لإتاحة المجال لإنشاء مؤسسات بديلة عنها تقوم بمهام التشاور والحوار والرقابة والتدافع السياسى المنضبط وفقا لقواعد سياسية ترتب على الجميع التزامات متبادلة.
...
نجحنا فى الطلعة الأولى، لكننا لم نقم بالعبور بعد. لأن من قام بالطلعة الأولى هم شباب مصر الغد الذين يريدون مؤسسات سياسية ديمقراطية، ولكن من يقوم بمهام بناء المؤسسات الجديدة هم ممن اعتادوا على «عسكرة» الحياة السياسية. ولهذا سيتم الصراع السياسى فى الشارع والتدافع وصولا إلى بناء مؤسسات دولة ديمقراطية. عملية قيصرية بلا «بنج» نشهدها ونشارك فيها، ولكن لا بد منها، وإلا سنعود إلى ما كنا عليه وتضيع البلاد بالفعل.
كانت هناك أوامر من المجلس الأعلى إلى المجلس الوزارى، ولأنه لم يكن هناك تدافع حقيقى بين هؤلاء وأولئك، أصبح هناك تدافع أعنف فى الشارع. والنقاش الآن هو بشأن من يستطيع أن ينقل النقاش من الشارع إلى المؤسسات. وسيتلخص النقاش فى شخص وصلاحيات رئيس الوزراء الجديد.
سيادة المشير لا يريد رئيس وزراء جديدا لديه خاصيتان: لا يريد شخصا لديه شرعية مستقلة غير شرعية «تمام يا افندم.» ولا يريد شخصا لديه أجندة سياسية مستقلة عن أجندة المجلس الأعلى. الدكتور محمد البرادعى مستعد ولكنه مستبعد وفقا لهذا المعيار من وجهة نظر المجلس الأعلى. ولم يعد سرا أنه أمكن صباح الخميس الماضى إقناع السيدين عبد المنعم أبو الفتوح وحمدين صباحى أن يقوم أحدهما بتشكيل الحكومة ويكون الآخر نائبا له بحيث تمثل جميع القوى السياسية والثورية فيها بلا إقصاء. وهى تضحية كبيرة من رجلين شريفين لإنقاذ البلاد والعباد.
لكن سيادة المشير يفضلها حكومة أليفة بلا أنياب سياسية، حتى يسهل توجيهها. ولكن لنتذكر أنه إن لم يحدث تدافع حقيقى داخل المؤسسات فسيكون هناك تدافع خارجها فى الميادين.
كل الاحترام للدكتور كمال الجنزورى ولتاريخه، ولكن البدائل المتاحة أوسع من الدكتور الجنزورى، ولو كان قد اعتذر عن المنصب، فهو عين العقل بالنسبة له ولنا. ولو كان كل ما حدث فى الأسبوع الماضى من تظاهرات واعتصامات سيترجمه سيادة المشير أنه من أجل استبدال رئيس وزراء بيروقراطى برئيس وزراء بيروقراطى آخر أشطر منه، إذن هذا دليل آخر على أن هناك فجوة إدراكية هائلة عند المجلس الأعلى بشأن القضية الأكبر التى تحكمنا وهى مركز الثقل فى عملية صنع القرار السياسى فى الباقى من المرحلة الانتقالية.
المجلس العسكرى نجح فى تسعة أشهر أن يفقد شرعيته عند الكثيرين بكفاءة استثنائية بما يدل أنهم، والحديث عن السيد المشير تحديدا، لديهم حس سياسى ضعيف لأقصى درجة، كالفيل الضخم العجوز الذى يدرك بصعوبة ويتحرك بصعوبة. ولكن المزعج أن الحكومة السابقة صارت على نفس منهج المجلس العسكرى، فقامت بفض اعتصام حوالى 200 شخصا بقتل 40 شخصا وجرح 1500 شخص كمن أصلح حنفية فى شقة بتدمير كل مواسير المياه فى العمارة كاملة. ويا لها من كفاءة استثنائية.
والغريب أن المجلس العسكرى حين يقرر أن يغير الحكومة يفكر بنفس المنطق السابق. إذن ما الحل؟
أولا، تشكيل حكومة إنقاذ وطنى كاملة الصلاحيات، تعبر عن جميع أطياف المجتمع المصرى بلا هيمنة أو استبعاد، مع اقتراح أن يرأسها أى من السادة، محمد البرادعى، عبدالمنعم أبو الفتوح، حمدين صباحى.
ثانيا، تشكيل مجلس مدنى للتعاون مع المجلس العسكرى فى إدارة ما بقى فى الفترة الانتقالية التى تنتهى قبل 30 يونيو، والأفضل عندى أن تتم انتخابات الرئاسة كما اقترح بعض الأصدقاء فى 25 يناير المقبل، لأن كل يوم فى ظل إدارة المجلس العسكرى هو خصم أكيد من قدرات مصر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
ثالثا، لا بد من تشكيل لجنة تحقيق جنائية مستقلة للتحقيق فى جريمة قتل المصريين ومحاسبة المسئولين عن تلك الجرائم.
رابعا، الوقف الفعلى للمحاكمات العسكرية للمدنيين فورا والإفراج عن المعتقلين السياسيين. خامسا تطهير وزارة الداخلية وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، والتوقف عن شيطنة المصريين لدى العاملين فى الأجهزة الأمنية حتى لا نرى مرة أخرى هذا الغل الذى يتعامل به بعض الضباط وبعض الجنود مع المتظاهرين. سادسا، تطهير مؤسسة الإعلام الرسمى ثم إلغاء وزارة الإعلام بالكلية وتشكيل مجلس وطنى للإعلام. سابعا، المحاكمة الجادة لمبارك ورموزه بتهمة الخيانة العظمى لما أنتجوه لنا من نظام سياسى فاسد قائم على عسكرة تعيق قدرتنا على الانطلاق.
...
كلمة أخيرة لأهلنا ممن يرون كل هذا التدافع وكأنه تدمير للبلاد. الحقيقة أن العكس هو الصحيح، بإذن الله. لا ينبغى أن نبالغ فى المحافظة والرجعية لدرجة أن نفقد قدرتنا على الحلم والفعل السياسى. نجيب محفوظ فى الثلاثية روى لنا أن السيدة أمينة استاءت من أولادها الذين كانوا يتظاهرون ضد الإنجليزى ويريدون منهم الرحيل. وكان سر اعتراضها أننا ولدنا لنجد أنفسنا نعيش مع الانجليز، وأصبحوا «عِشرة والِعشرة لا تهون إلا على ولاد الحرام». هذا منطق مغلوط. المجلس العسكرى له مهام محددة، وأن يكونوا قد حكمونا لفترة سابقة، فهذا ماض له مميزاته وله عيوبه. أما الآن فعليهم أن يبدأوا فى نقل الحكم إلى حكومة مدنية فعلا، وليست إدارة تابعة لهم برئاسة رئيس وزراء أقرب إلى «شاويش» تم تعيينه بأمر عسكرى.
نريد رئيس وزراء حكومة الثورة فعلا، وليس جندى مجند فلان الفلانى ثابت مكانه فى مقر مجلس الوزراء. نريد أن تنتقل الثورة إلى مؤسسات الحكم، وليس أن تكون عملية الحكم فى الميادين والشوارع عبر التظاهر والاعتصامات.
القارئ الكريم، غالبا استوعب ما أقترحه فى هذا المقال، أما من يعنيهم الأمر، إن قرأوا، فسيقولون: غالبا هم لا يريدون الجنزورى، طيب هل ممكن نستعين بمفيد شهاب؟