صرخة الرجعيين وضحايا العولمة

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

آخر تحديث: الجمعة 25 نوفمبر 2016 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

أتفهم جيدا دوافع بعض الكتاب والمفكرين العرب الذين يتوقفون فى شرحهم لفوز دونالد ترامب فى الانتخابات الرئاسية فى الولايات المتحدة الأمريكية إما عند حدود إدانة العنصرية والفاشية وخطابات الكراهية التى حملته إلى البيت الأبيض وإما عند التحذير من التداعيات الخطيرة على معيشة الجاليات العربية والمسلمة فى الغرب أو نشر التوقعات السلبية بشأن سياسات ترامب تجاه الشرق الأوسط. فهم محقون فى كل ذلك، وليست الموضوعية بغائبة عن توقعاتهم.

أتفهم أيضا اندفاع البعض الآخر إلى المرادفة بين فوز ترامب وبين صعود اليمين الشعبوى فى العديد من البلدان الأوروبية، وبين الأمرين وبين أزمة حكومات الغرب الديمقراطية التى لم تعد محل ثقة شعبية واسعة وفقدت نخبها القدرة على إقناع الناس بكون آليات الانتخابات الحرة وتداول السلطة وحكم القانون تمثل مجتمعة الضمانة النهائية لصون مصالحهم الفردية وتحقيق الصالح العام، وبين أزمة الديمقراطية وبين توحش الحكومات المستبدة فى بلدان كروسيا والصين وإيران وبعض الدول العربية وعدم اكتراثها بحقوق الإنسان أو قضايا الحريات، وبين توحش المستبدين وبين همجية عصابات الإرهاب وجماعات العنف التى تفرض خرائط الدماء والدمار عالميا.

أتفهم استدعاء نفر ثالث من الكتاب والمفكرين العرب لردود أفعال الليبراليين والتقدميين فى الولايات المتحدة وأوروبا، والتعويل عليها كدليل لتمسك المجتمعات الغربية بقيم العدل والحق والحرية والمساواة والتعددية والحدود المفتوحة ــ قيم الحداثة والديمقراطية والعولمة ــ وللتضامن مع من يتهددهم ترامب ونظراؤه بالطرد كالمهاجرين غير الشرعيين واللاجئين، أو بالتعقب كالجاليات العربية والمسلمة. بل يشكل إظهار تضامن ليبراليى الغرب وجماعاته التقدمية المتحلقة حول أفكار اليسار مع الضحايا المحتملين لليمين الشعبوى سياقا مهما وضروريا لتفكيك الكثير من مقولات الجهل والانطباعات السلبية المنتشرة بين العرب والمسلمين بشأن المثقفين العلمانيين والمدافعين عن حقوق المثليين جنسيا والمبدعين المطالبين بإطلاق الحريات الفردية، وهؤلاء يتصدرون اليوم المشهد الرافض للعنصرية والشعبوية.

***

أتفهم كل ذلك، وليس لدىّ، أخلاقيا وفكريا، سوى الموافقة الكاملة والتضامن الشامل. غير أن الاكتفاء بإدانة ترامب ونظرائه أو بالمرادفة بينهم وبين المستبدين وبينهم وبين عصابات الإرهاب والكراهية أو بالتدليل على تمسك الليبراليين والتقدميين فى الغرب بقيم الحداثة والديمقراطية والعولمة ــ يمنعنا من إدراك الأزمة الحقيقية والعالمية التى يؤشر إليها صعود اليمين الشعبوى.
فمن جهة، تترجم الانتصارات الانتخابية المتتالية لترامب ونظرائه معارضة قطاعات شعبية واسعة فى الولايات المتحدة وأوروبا للسياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المطبقة منذ عقود والتى تتهم بالتسبب فى: (١) ظلم الطبقات العاملة وتوسيع الفجوة بينهم وبين الطبقات الوسطى والغنية. (٢) التورط فى مجاراة آليات عولمة رأس المال والاستثمارات والنشاط الاقتصادى على نحو أعدم صناعات كبرى فى الغرب، وأضاع ملايين فرص العمل على الأمريكيين والأوروبيين ذوى التعليم المتوسط (غير الحاصلين على شهادات جامعية) وغير القادرين على منافسة العمالة الرخيصة فى البلدان النامية. (٣) فتح حدود الغرب لموجات متلاحقة من الهجرة واللجوء والتعامل المتردد مع ظاهرة الهجرة غير الشرعية والمهاجرين غير الشرعيين ومن ثم تهديد الهوية الاجتماعية والثقافية للمجتمعات وفرض الاغتراب على من يرون أنفسهم «أصحاب البلاد الأصليين» وملاكها الحصريين. وبينما تغيب الموضوعية عن بعض هذه الاتهامات ــ فالغرب لم يفتح حدوده خلال العقود الماضية بل أغلقها، والهويات الاجتماعية والثقافية ليست كيانات ثابتة عصية على التغيير ونقية عرقيا (أمريكا البيضاء وأوروبا الخالية من المسلمين) بل خبرت دوما التبدل والتنوع وتعدد المكونات العرقية، تكتسب الاتهامات المتعلقة بغبن الطبقة العاملة والانفتاح غير المحسوب على آليات العولمة التى يفيد منها فقط الأغنياء والنافذون والقادرون على المنافسة من الشباب الكثير من المصداقية العلمية والفكرية. إلا أن التمايز الذى ألمحه هنا بين موضوعية غائبة ومصداقية حاضرة لا يقلل أبدا من عنفوان معارضة «ضحايا العولمة» فى الغرب لسياسات حكومتهم، وصرختهم السياسية والانتخابية بحثا عن التغيير عبر إيصال اليمين الشعبوى إلى مقاعد الحكم وإحلاله محل النخب والأحزاب التقليدية التى فقدت الكثير من فاعليتها (تارة بسبب فضائح الفساد المتكررة وأخرى بفعل آليات العولمة التى تحد من قدراتها على تطبيق سياسات اقتصادية واجتماعية مستقلة عن رغبات المراكز الكبرى لرأس المال والنفوذ) أو تبنى تفضيلاته (من الانسحاب البريطانى من الاتحاد الأوروبى إلى بناء الأسوار على الحدود وترحيل المهاجرين غير الشرعيين واللاجئين).

من جهة ثانية، يجسد صعود اليمين الشعبوى صرخة مجتمعية لقطاعات شعبية فى الغرب ترفض لأسباب متنوعة عمليات التحديث القيمى والثقافى والقانونى التى حولت إلى مقبول واعتيادى ومحتفى به بعض ما كان فى الماضى مرفوضا أو محرما أو مقصورا على الهوامش. منذ سبعينيات القرن العشرين، والليبراليون والتقدميون فى الولايات المتحدة وأوروبا يرفعون رايات تحديث الأنساق القيمية لإقرار تحييد شامل لدور الدين فى الحياة العامة والمساواة الكاملة بين الناس بمعزل عن اختياراتهم الشخصية والانتشاء بالتنوع الثقافى كأساس وحيد للمجتمعات المعاصرة، ودفعوا باتجاه تمرير تعديلات قانونية علمانية الجوهر تنهى اضطهاد الرافضين للقيم الدينية وتضمن مساواة المثليين جنسيا وتصون حقوق الأقليات على أساس قاعدة الاختيار الحر. فى المقابل، لم يعد النقاش العام فى المجتمعات الغربية يرى فى رافضى عمليات التحديث هذه سوى مجموعات مسكونة بفهم رجعى للقيم وللدين أو دعاة عنصرية وكراهية وخوف من الآخر وخوف من الاختيار الحر أو متخلفين عن ركب التقدم وعولمة الحدود والسماوات المفتوحة. صرخة الموصومين بالرجعية والعنصرية ونشر الخوف هى اليوم الاندفاع نحو تأييد اليمين الشعبوى الذى يجدون بسياسييه وشخصياته العامة وحركاته وأحزابه وإعلامه (البديل) الفضاء الوحيد للتعبير عن تفضيلاتهم والمطالبة باحترامها ومقاومة مصائر «الانقراض والاختفاء» التى يفرضها عليهم الكثير من الليبراليين والتقدميين وأدواتهم الإعلامية الكثيرة. أسجل ذلك، على الرغم من قناعتى الأخلاقية والفكرية بالأنساق القيمية الحديثة وبالقوانين العلمانية وبقاعدة الاختيار الحر وبحتمية رفض العنصرية وخطابات الكراهية والخوف.

***

أغلب الظن أن صعود اليمين الشعبوى غربيا وعالميا لن يتوقف قريبا، تماما كما لن يتراجع الترابط العضوى بينه وبين عنفوان المستبدين ووحشية عصابات الإرهاب. ولأنه سيكون معنا وسيغير الكثير غربيا وعالميا، يصبح من الضرورى الشرح الموضوعى لظاهرة اليمين الشعبوى والابتعاد عن اختزالها ووصم مؤيديها مهما اختلفنا معهم قيميا وأخلاقيا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved