الانتفاضة الإيرانية على زيادة سعر البنزين: الأسباب والأبعاد الإقليمية
وليد خدوري
آخر تحديث:
الإثنين 25 نوفمبر 2019 - 11:05 م
بتوقيت القاهرة
انتشرت مظاهرات الشعب الإيرانى فى أكثر من 100 مدينة. ونادت الشعارات الأولى، كما هو متوقع، بإلغاء زيادة أسعار البنزين، ثم تصاعدت لهجة الشعارات لتطالب بمحاربة الفساد والقضاء على البطالة، كما الشعارات التى يطرحها المتظاهرون فى لبنان والعراق، وثم بدأ المتظاهرون، أو بعضهم على الأقل، حرق المكاتب العامة ومقرات الباسيج والدعوة لوضع حد للتوسع الإيرانى فى الدول العربية المجاورة. ذكرت وكالة أنباء فارس أن 87 ألف شخص شاركوا خلال اليوم الأول للمظاهرات فى طهران، التى انتشرت بسرعة فى اليوم الثانى فى مختلف أرجاء البلاد وأدت إلى اغتيال العشرات واعتقال الآلاف من الشباب وحرق خمسة مصارف تابعة للحرس الثورى، حسب وسائل الإعلام التى فرضت عليها رقابة مشددة. وبادرت السلطات إلى إغلاق وسائل الاتصال الاجتماعى، كما أصبح معتادا عليه أثناء فترات الاحتجاجات فى الدول النامية.
السؤال: هل المظاهرات والاحتجاجات بسببب غلاء سعر الوقود فقط، أم أن هناك أسبابا أخرى أعمق وأضخم وراءها. وما هى هذه الأسباب؟ وما هى انعكاساتها السياسية؟
كانت أسعار البنزين فى إيران خلال السنوات الأخيرة من أقل أسعار الوقود فى العالم. إذ كان سعر اللتر الواحد نحو 10 آلاف ريال (أو نحو 9 سنتات أمريكية). أعلن قرار الحكومة مؤخرا أن نظام تقنين جديدا سيتم العمل به منذ الآن فصاعدا. يقضى هذا النظام الجديد بتحديد نحو 60ــ200 لتر شهريا لكل مركبة بسعر مخفض مقداره 15 ألف ريال، مما يعنى زيادة الأسعار نحو 50 بالمائة. كما أن أى مشتريات للوقود أكثر من المستوى المقنن، سينطبق عليها سعر جديد هو 30 ألف ريال للتر، مما يعنى زيادة السعر 200 بالمائة. من الجدير بالذكر، أن سعر البنزين فى إيران، قبل وبعد هذا القرار، يبقى مدعوما من قبل الحكومة. إذ يستمر ثمنه أقل من كلفتى الإنتاج والتكرير. وأعلن رسميا أن السبب لإصدار قرار زيادة الأسعار هو لتوفير المساعدات للفئات الفقيرة.
من المعروف أن سعر البنزين يترك بصماته على مجمل الاقتصاد المحلى. وبالذات بلد مثل إيران ذات المساحات الشاسعة، حيث الحاجة للتنقل بالمركبات لمسافات بعيدة، مما يعنى زيادة كلفة نقل البضائع والمنتوجات الزراعية وتنقل المواطنين من مدينة إلى أخرى، أو حتى للتنقل داخل المدينة الواحدة لقضاء العمل اليومى والتسوق والتنزه. هذا يعنى زيادة فى التضخم الاقتصادى وعبئا أكبر على المواطنين. وقدرت مصادر مصرفية إيرانية أن ارتفاع سعر البنزين سيزيد نحو 4 بالمائة على معدل التضخم.
تلجأ بعض الدول النفطية إلى تخفيض سعر البنزين إلى مستويات بأقل من كلف الإنتاج والتكرير. والسبب هو إرضاء الرأى العام الداخلى بتخفيض الضرائب. لكن المشكلة، هى أنه مع تخفيض أسعار الوقود، تزداد معدلات الاستهلاك المحلى للوقود، ومن ثم يتوجب على الحكومة المعنية تحمل خسائر متزايدة أو زيادة الأسعار فى وقت لاحق.
***
تواجه الحكومة الإيرانية مشكلة أساسية فى الحكم وهى عدم إعطائها الأهمية اللازمة للسياسات الاقتصادية والأحوال المعيشية للسكان. إذ أعطت الأولوية لتبنى سياسات توسعية إقليمية، وتصنيع الأسلحة المتطورة باهظة الثمن، هذا فى الوقت الذى كان ينوء فيه الشعب من تدهور الاقتصاد، ومن انخفاض قيمة الريال بالنسبة للدولار، ومن تفشى الفساد وزيادة البطالة، وإنفاق الأموال على مغامرات إقليمية. وقد عبرت الاحتجاجات الشعبية عن قلقها وشكواها فى أكثر من مظاهرة خلال السنوات الماضية.
تبنت طهران سياسة توسعية فى الشرق الأوسط فبسطت نفوذها فى دول المشرق العربى، ناهيك عن اليمن والبحرين. اعتمدت هذه السياسة التوسعية على فيلق القدس فى الحرس الثورى، بزعامة قاسم سليمانى حيث تصرف فى بعض الدول وكأنه المندوب السامى، فأخذ يتدخل بالأمور الصغيرة والكبيرة من نشاطات الأجهزة الاستخبارية وحتى تعيينات الوزراء والمدراء العامين فى الوزارات، ناهيك عن توجيه الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران لتبنى سياسات تدعم استراتيجية طهران الإقليمية. وكما هو معروف، تبنت الجمهورية الإسلامية الإيرانية شعار تحرير القدس لتبرير سياستها فى فرض نفوذها على المشرق العربى، لكن أدت بالفعل، وبدلا من تحرير القدس إلى الانهيار الاقتصادى والتمزق الاجتماعى للدول المعنية. لقد تطلبت هذه السياسات وعمليات التسلح أموالا ضخمة، وواكبها سياسة غض النظر للأحزاب الموالية لإيران لصحة السياسة الاقتصادية الداخلية، وتأييد الأحزاب الفاسدة، بل تشجيعها. مما أدى إلى تذمر شعبى واسع كما هو حاصل فى لبنان والعراق حاليا.
تظاهر الشعب الإيرانى مرات عدة ضد إنفاق ثروات بلاده على مغامرات إقليمية. لكن، حقيقة الأمر، وما لم تعلن عنه طهران، أن الأموال التى كانت تنفق لتوسيع نفوذها فى الدول العربية، يتم الحصول عليها من العراق بوسائل ملتوية عدة: الاستفادة من بعض المصارف والمؤسسات المالية العراقية التى تشترى الدولار بسعر مخفض عن طريق مزاد العملات اليومى للبنك المركزى العراقى. كما استفادت طهران من الفساد المستشرى وغير المسبوق فى العراق. ساهم فى عمليات الفساد هذه معظم كبار الساسة العراقيين الموالين لايران والمتنفذين بالحكم منذ احتلال 2003.
لعب رئيس الوزراء السابق نورى المالكى الدور الأبرز فى عمليات الفساد أثناء فترتى حكمه اللتين استمرتا لمدة 8 سنوات. تم هذا من خلال اقتراضه 10 مليارات دولار من وزارة المالية دون تسديدها حتى الآن. وكذلك محاولته تهديد حاكم البنك المركزى العراقى السابق سنان الشبيبى لإقراضه 5 مليارات دولار، الأمر الذى رفض الشبيبى تنفيذه لمخالفته القوانين المرعية، مما دفع المالكى تلفيق تهمة ضد الشبيبى انتهت بتبرئته من المحكمة بعد انتهاء مدة حكومة المالكى. كما هناك صفقات استيراد الأسلحة من دول أوروبا الشرقية واشتراك المالكى ورفاقه فى تسلم عمولات بعشرات الملايين من الدولارات لعقد هذه الصفقات. وهناك فضائح ما سمى فى العراق بتعيين «الفضائيين» أو الآلاف من الموظفين المعينين من قبل المالكى فى الوظائف المدنية والعسكرية دون الدوام فى هذه الوظائف، وحصل المالكى على الجزء الأكبر من معاشاتهم الشهرية. وقد اعترف بعض الساسة العراقيين وزعماء الأحزاب ورئيس الوزراء حيدر العبادى علنا وعلى شاشات التلفزيونات العراقية بالفساد المستشرى الذى «شارك فيه جميع الساسة الكبار». ولكن، نظرا إلى أن الفساد استشرى فى المحاكم أيضا، لم يحاكم أى من المسئولين، رغم اعترافات زملائهم علنا. وقد اعترف رئيس الوزراء العبادى علنا بعد استلامه الحكم من المالكى بأن «خزينة الدولة فاضية»، وأن عدد الفضائيين يبلغ عشرات الآلاف، وأن الفساد منتشر. ورغم كل هذه التصريحات العلنية للعبادى (الذى هو من حزب الدعوة أيضا ــ مثل المالكى) لم تتم الإجراءات القانونية اللازمة لمعاقبة الفاسدين. لكن يبقى ما اختفى من الريع النفطى الذى كان يضع المالكى يده عليه دون رقيب أو محاسبة المصدر الأول لاختلاس الثروة العراقية.
***
استغرب المواطن العراقى فى بادئ الأمر بحجم المبالغ المتداولة التى يتم تحويلها خلسة إلى السلطات الإيرانية. ومن ثم عم الكلام عن مليارات وليس فقط ملايين الدولارات. وتبين أن سياسات الحصار على إيران أدت إلى شح الدولار وتدهور قيمة الريال فى إيران. ثم تبين أن الدولارات التى تهرب من العراق يتم تحويلها للسلطات الإيرانية لتمويل الأحزاب وميليشياتها فى الدول العربية التى توسع عددها إلى العشرات وزادت نفقاتها. إن الذى دفع إلى هذا الاستنتاج عند العراقيين هو غياب البنود فى الميزانية الإيرانية السنوية عن كمية الدعم المالى للأحزاب والميليشيات فى الدول العربية وذلك لعدم إثارة النقمة المتزايدة داخليا، هذا رغم الإشادة تكرارا وتلفزيونيا من قبل بعض مسئولى هذه الأحزاب بتمويلهم وتسليحهم من قبل إيران.
إن الذى زاد من الصعوبات الاقتصادية لطهران هو سياسة الحصار النفطى الأمريكية الجديدة لمعاقبة إيران لعدم موافقتها تعديل بنود الاتفاقية النووية لإيران لعام 2015 حسبما أصرت حكومة الرئيس دونالد ترمب منفردة والتى انسحبت من الاتفاق وفرضت العقوبات. أدت هذه العقوبات إلى سقوط قيمة الريال الإيرانى مقابل الدولار الأمريكى إلى مستوى قياسى. كما أدت إلى انخفاض الصادرات النفطية الإيرانية من 2.50 مليون برميل يوميا إلى نحو 500 ألف برميل يوميا، مما يعنى خسارة (افتراض سعر برميل النفط حوالى 60 دولارا للبرميل) حوالى 120 مليون دولار يوميا.
لم تعر القيادة الإيرانية اهتماما كافيا لإصلاح نظامها الاقتصادى وتعديل أولوياتها رغم الصعوبات التى أخذت تواجهها. لكن بدأ مؤخرا تقلص أو حتى توقف تهريب الدولارات التى كانت تتدفق عليها خلسة من العراق خلال الأشهر الأربعة الأخيرة. ورغم ذلك، استمرت طهران فى سياساتها.
ومما أدى أيضا إلى اختلال السياسة الاقتصادية الإيرانية شيوع الفساد والتبذير فى معظم دوائر الدولة، كما تشهد على ذلك المحاكمات العديدة للفضائح العلنية. هذا، بالإضافة إلى استلام أجهزة الحرس الثورى مسئولية القطاعات الاقتصادية المهمة فى البلاد، وبالذات قطاع النفط.
حصل الإرباك فى الوضع الاقتصادى الإيرانى فى نفس وقت الثورات الإصلاحية والمعادية لإيران، مما زاد الطين بلة لطهران. وشكل نكسة سياسية إقليمية لها بعد سنوات من محاولات ضعضعة الدول المجاورة من خلال زعزعة العقد الاجتماعى فى هذه الدول (بإثارة وتأجيج النعرات الطائفية، وأيضا من خلال غض النظر بل وتشجيع الفساد من قبل مؤيديها).
لقد ارتأت إيران لحد الآن اتخاذ موقف هادئ من الحركات الإصلاحية فى لبنان والعراق، بانتظار إجهاد الشباب المتظاهرين بعد قضاء أسابيع، بل أشهر فى الشوارع والساحات العامة، ومن ثم مواجهتهم بصورة مباشرة من خلال ميليشياتها المسلحة للقضاء على الحراك الشعبى. وتلاقى هذه السياسة تأييدا غير مباشر من الحكام المتثبتين على كراسيهم، ولا يظهر هؤلاء الحكام أى إشارة لاستعدادهم الوصول إلى حلول إصلاحية سريعة يوافق عليها الحراك فى لبنان والعراق. لذا هناك شكوك بأن الأرباح المتأتية من زيادة أسعار البنزين ستنفق لمساعدة الفقراء، بل إن هذه الأموال ستكون ضرورية لمعارك ضارية مستقبلية ستنفق فيها إيران الكثير للاحتفاظ على مواقع قدمها فى الدول المجاورة، هذه المواقع التى عملت عقودا الآن لاكتسابها، والتى لا توجد أى مؤشرات لاستعدادها التخلى عنها بدون معارك.