في حب المدينة من جديد
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 25 ديسمبر 2019 - 11:10 م
بتوقيت القاهرة
أن أعود إلى مدينة عشت فيها قصة حب أنتجت حياة مشتركة وأطفالا هى عودة إلى البيت. أن أزور القاهرة بعد قرارى وزوجى أن نتركها منذ ما يقارب السنة يعنى أن ألتقى بحبيب انشغلت عنه منذ شهور بحياة جديدة بعد أن قررت أن أفترق عنه. أنظر إليه باهتمام وبعض المسافة. لقد تركتك فلا تزاحمنى فى مساحة خلقتها بعيدا عنك فهى لا تخصك. أنا اليوم أعيش فى مكان آخر وأحاول ألا أفكر بعلاقتنا السابقة، لا أنظر إلى ما تركته خلفى.
***
ثم أعود إلى القاهرة فى زيارة لأجد أننى نسيت خلافاتى معها أو تناسيتها. أمضى يوما أجول الشوارع بحثا عن بقايا قصة حب قديمة. دون جهد، أرى قصة حبى مكتوبة فى كل مكان. بائع الورد شاهد على قصتى كما هو أيضا بائع الحلوى. مكتبة الحى القديمة فى مكانها والمطعم المفضل لسهراتى مع زوجى فى مكانه أيضا. ثمة مسحة غبار وحزن إضافية على النواصى لا أعرف إن كنت سوف أتجاهلها أم أتوقف عندها لأخفف منها. ربما سوف أتجاهلها كما أتجاهل مظاهر الكهولة حين أراها على من أحب.
***
المدينة تعبة، تتكئ على حائط لتأخذ أنفاسها بينما يغطى جمالها التلوث ويبث عادم السيارات فى هوائها سموما يتنشقها سكانها. النيل وجماله لا يضاهيه أى نهر آخر فى مساره والقصص التى يحملها ويرميها فى البحر. أضواء الفنادق الفخمة التى تتلألأ فوق وجه النيل هى أجمل زينة للمدينة فى فترة الأعياد.
***
أمشى فى شوارع أحفظ كل تفصيل نقشته قصص الناس على أحجارها. أعرف القصص وأسمع أصوات أصحابها، أمر بعينى على كتابات على جدرانها وألتقط بأذنى أحداثا جديدة يرويها من أشق طريقى بينهم، حركة مستمرة تتعب المدينة دون توقف. أعيد نسج قصصى مع أشخاص عرفتهم هنا ورحل منهم الكثيرون على مدى السنوات. يسألنى أخى إن كنت قد اشتقت إلى القاهرة فأجيب دون تردد أننى اشتقت إلى أهلها، إلى أصدقائى، إلى أصحاب الدكاكين حول البيت أكثر من شوقى إلى المدينة.
***
أتسائل أصلا عن شوقى إلى أى مدينة عشت فيها من قبل، لا سيما أننى أنتقل مع عائلتى فنرتبط بمكان ثم نرحل كالبدو مع أشيائنا إلى مكان آخر. لا أعرف إن كنت أرتبط بمكان بمعنى حجره لكنى أرتبط بمكان بمعنى بشره من كل بد. هناك عبارات وكلمات أفتقدها فى الترحال وأجدها كما تركتها عند اللقاء. فى الألفة راحة، كمن يعود إلى بيت عائلته ويشم رائحة زهر البرتقال من على المدفأة. رحلت الجدة والمدفأة القديمة لم يعد يستخدمها أهل البيت أصلا، إنما للأنف قدرة عجيبة على استحضار رائحة عششت فى المكان حتى بعد رحيل سيدته. هى رائحة العودة، هى رائحة اللقاء.
***
أن تعود إلى مكان أحببت فيه وبنيت أقوى الصداقات يعنى أن تعود إلى دفء حاولت أن تنساه حتى تسهل عملية الافتراق عنه. أن تجد الأحباب كما تركتهم، ينتظرونك ويرمون بشباكهم من حولك من جديد يعنى أن الارتباط بالمكان أوثق من أن يفككه البعد. أن تندس فى خبايا الشوارع وتمسح بيدك على سور قديم يعنى أنك لم تترك المكان جديا. لقد أبقيت على بعض من نفسك هنا، ربطت جزءا من قلبك على السور، أفلت بالونا أحمر فى سماء المدينة وها هو يطل عليك من فوق ليذكرك أنه باق هنا، كحلم فى سماء يملكه الجميع ولن يصطاده أحد، يطل بوجهه كل صباح بين الغيوم ليذكر أهل القاهرة بأنهم تجرأوا على الحلم، وأن حلمهم لن يسجنه أحد فهو حر فى سماء مدينتهم.
***
أتآلف مع بيتى من جديد، أفتح درجا أعرف ما بداخله دون أن أنظر. أن تعود إلى مكان أحببته تماما يعنى أنك ما زلت تحفظ تضاريسه ومزاجه. تعرف ما يزعجه وما يرسم على وجهه ابتسامة. أن تعود إلى مدينة أحببت فيها يعنى أن تختبئ عند ناصية شارع بانتظار أن يمر من تحب من أمامك فتلقى بنفسك عليه. ثمة شعور يصعب وصفه فى لقاء حب قديم ما زال يشغل قلبك رغم قصص حب عشتها من بعده. أن تعرف تلك النجمة التى تضىء العين اليمنى من وجهه، رغم تجاعيد ظهرت حول العين منذ آخر لقاء لكما، يعنى أن ثمة مكان للحب القديم لن تختفى.
***
أنا فعلا أحببت القاهرة دون شروط، أزعجتنى وتضايقت من قسوتها، ثم تصالحت معها بعد أن أضاءت وجهها ابتسامة خياط عجوز يجلس أمام محله فى الصباح. ما زلت أحمل فى قلبى مشاعر متضاربة تماما كما يكون الحال فى قصة حب معقدة مع شخص إشكالى لكنه ذو سحر لا مثيل له. قد يسأل من لا يعرفه عن سبب انجذابى إليه، ولا أحب أن أدخل فى تفاصيل العلاقة: خذ القاهرة أو اتركها، أقول لمن يسألنى، هى أكبر من أن أحاول أن أقنعك. إن كرهتها فذلك مفهوم، أما بالنسبة لى، فلا مفر من لقاء حبيب قديم والاعتراف أنه ورغم قسوته فقد عشت معه أقوى حب، وها أنا أرتمى فى القصة من جديد وكأننى لم أترك الحبيب قط.