اليوم التالى.. قضية كل الناس فى كل مكان
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 25 ديسمبر 2024 - 7:25 م
بتوقيت القاهرة
قبل أسابيع تركز اهتمامنا، نحن أهل هذه المنطقة، على اليوم التالى لغزة. كانت غزة الفرصة التى لفتت انتباه البعض منا، وكان بعضا قليلا، إلى خريطة حملها نتنياهو إلى نيويورك ليرفعها أمام العالم بأسره. عرفنا يومها أو فيما بعد أن الخريطة لإسرائيل الكبرى. ولم تمر أيام كثيرة إلا وراح يعلن عن عزمه هو وحكومته على صنع شرق أوسط جديد. هكذا وبغزوات صريحة ودموية انتقل همنا واهتمامنا باليوم التالى فى غزة، أو أضيف إليها الضفة ولبنان ثم سوريا. صار الهم أكبر، وازداد فى المنطقة الانشغال بقضية اليوم التالى لتصبح وبصياغة مناسبة البند الأول غير المعلن على جدول أعمال اجتماعات عديدة للمسئولين عن مستقبل البلاد، وأظن من واقع خبرتى فى متابعة هذا النوع من النشاط الإقليمى أن هذه الاجتماعات كانت غير مسبوقة فى عددها وغير واضحة أو صريحة فى مراميها وغير دقيقة ولا حاسمة فى نتائجها. دليلى على كل ما سبق هو القلق المتعاظم فى كل مكان بالشرق الأوسط، كبيره وصغيره وليس فقط فى غزة، حول ما يمكن أن يجره علينا «اليوم التالى» من كوارث أخرى.
• • •
لسنا وحدنا، وهنا أقصد شعوب الشرق الأوسط برمته، سواء كانت هذه الشعوب رعايا دول عربية أو دول إقليمية مثل الفرس والأتراك والأكراد والتركمان وحتى الإسرائيليين، أقول لسنا وحدنا الذين نحمل هم «اليوم التالى» أو ننشغل به وبما يحمل لنا. أقرأ، كما يقرأ الكثيرون أو يسمعون ما أسمع، عن الموجات المتلاحقة من القلق التى اجتاحت وتجتاح مختلف قارات العالم منذ أعلن دونالد ترامب عن نيته ترشيح نفسه لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية. لن أتحدث عن القلق داخل الولايات المتحدة نفسها ففى ظنى أنه سوف يعلن عن نفسه متدرجا فى الصعود خلال الأسابيع الأولى من ولاية الرئيس الجديد مدفوعا بتنفيذ ترامب لوعوده ولكنى أختار القلق السائد هذه الأيام فى كل دول أمريكا اللاتينية بدون استثناء ليس فقط بسبب موقف الرئيس الجديد من قضايا الهجرة وإصراره على أن المهاجرين من هذه البلاد غالبيتهم مجرمون ولصوص وملونون، ولكن أيضا بسبب التعاطف الدبلوماسى والسياسى من جانب حكومات أمريكا اللاتينية مع نظامى الحكم فى كل من كوبا وفنزويلا فضلا عن تشجيعها المستتر لشعوبها على الهجرة إلى الولايات المتحدة.
الجديد والمثير فى هذه الحالة، وأقصد القلق والانشغال المتزايدين لدى شعوب بعينها نتيجة قرب وصول ترامب إلى تولى مهام منصبه، هو الصدى المكثف المعبر عن رد فعل شعب كندا لتصريح للرئيس ترامب قبل أسبوع أو أكثر قليلا حمل تهديدا صريحا ومباشرا لترودو رئيس الوزراء الكندى بعقوبات مدمرة للاقتصاد الكندى لو لم تبذل حكومته جهودها لمنع عبور الأجانب إلى الولايات المتحدة. أنا نفسى أذكر جيدا، وكنت طالبا فى مونتريال، كيف كنا نعبر هذه الحدود، وهى الأطول فى العالم، مرات عديدة فى الشهر الواحد دون أى عقبة تذكر. لا شك أن أحوالا كثيرة تغيرت. وقتها لم تكن الولايات المتحدة تمر فى شبكة من أزمات شديدة التعقيد كالحال الراهنة، منها على سبيل المثال الأزمة الاجتماعية الناتجة عن فجوات الدخول وصعوبات استيعاب المهاجرين الجدد وفساد الحكم والهيمنة الصارخة على الحياة السياسية من جانب أوليجاركية جديدة وعدوانية الأساليب ومنظمات صهيونية متنامية النفوذ.
• • •
القلق موجود فى روسيا ولكن مختلط ببصيص أمل. لم يخطر على بال الرئيس بوتين وحكومته أن حربه أو ما أطلق عليه العملية العسكرية ضد أوكرانيا سوف تطول إلى هذا الحد. كما أنه، وفى الوقت نفسه أو قبل هذا الوقت، لم يخطر هذا الخاطر على بال قيادة حلف الأطلسى وأمريكا على رأسه عند التخطيط لإثارة رد فعل معين عند القيادة الروسية. الآن تتأكد رغبة طرفى الصراع، باستثناء الجماعة الحاكمة فى كييف، فى تهدئة وتيرته أو تسويته بشكل عاجل لضخامة تكاليفه وضعف مكاسبه. وصل القلق، كما أراه شخصيا، إلى حد جعل الرئيس بوتين يغامر فى مؤتمره الصحفى السنوى المنعقد قبل أيام قليلة عندما فتح بابا من أبواب جهنم ليصف جماعة الرئيس زيلينسكى بالعُصبة اليهودية. مرة أخرى يصل فشل قيادة روسية إلى هذا الحد الخطير، أقصد إثارة الشعب الروسى لليهود.
الجانب الآخر انتابه قلق ليس أقل حدة. إذ صار الحلف الأطلسى يواجه أزمة لعلها بين أهم ما واجه على امتداد أكثر من سبعين عاما. عادت أوروبا تحت ضغط الإنفاق على حرب لم تقنع بعد كل الشعوب الأوروبية تطالب حكامها باستقلالية أكبر لأوروبا عن الهيمنة الأمريكية. صادف هذا التيار المتزايد القوة وقوع أزمات سياسية حادة فى القوتين الأهم والأكبر وهما ألمانيا وفرنسا، وفى الوقت نفسه بزوغ نزعات تمرد فى بعض دول إسكندينافيا وبولندا بسبب تباطؤ قيادات الاتحاد الأوروبى فى تنفيذ مسئولياتها الأمنية وتراخيها فى مواجهة قضية الهجرة وتنظيم علاقات أوروبا بالدول الأفريقية وبالصين وروسيا، بمعنى آخر امتد القلق فى بعض الدول الأوروبية مثل إيطاليا إلى المستقبل القريب جدا، أى إلى اليوم التالى.
• • •
نعود إلى ما يهمنا بشكل مباشر وهو القلق الناشب فى كثير من مجتمعات الشرق الأوسط إن لم يكن فى جميعها. لا شك أن عناصر القلق متنوعة، منها ما هو عالمى وجئت بالإشارة إلى بعضها فى السطور السابقة، مثل الترامبوية الزاحفة من واشنطن فى السنوات الأربعة القادمة وما تخلفه من آثار فى السنوات والعقود التالية. يكفى أن نذكر الوعود العديدة التى أتحفنا بها الرئيس ترامب خلال حملته الانتخابية وبعدها، حصيلتها إن صدقت تحليلاتها مكانة عظمى لإسرائيل فى الشرق الأوسط، ومكانة دنيا للعرب وبالأخص لعقيدتهم غير الدينية أى للعروبة.
مصدر آخر للقلق كشفت عنه التطورات الأخيرة فى المنطقة، وهو الميل المتنامى من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل للاستفادة من رعايتها منفردة أو مجتمعة، عن قرب أو عن بعد، لجماعات إسلامية متطرفة، فأسبغت عليها، لحمايتها من الحكومات العربية والإقليمية الأخرى، صفة الإرهاب. وفى لحظة مناسبة، متوقعة أو مخطط لها، يزحف هذا التنظيم أو ذاك على هذا البلد العربى أو الآخر فيسقط حكومته أو يوحى لها بمزايا الرحيل الآمن فترحل. عندها تدخل إسرائيل منتزعة أراضٍ جديدة ومستولية على مواقع زاخرة بالمواد الخام ومحتلة مناطق تقع بالصدفة أو بالتعمد ضمن خريطة ما يسمى الآن بشرق أوسط جديد.
• • •
إيران فى أشد حالات القلق. الحصار بعد تقليم أهم أظافرها يكاد يخنقها دبلوماسيا وإقليميا. العراق فى قلق أشد من طول انتظار دوره وصعوبات تأقلمه مع متغيرات أكثرها غير عادى ولا مألوف. تركيا فى قلق مختلف، فالأكراد يتجمعون فى سوريا مع اقتراب الوعد بحل نهائى لقضيتهم والأتراك يحشدون قوتهم لمنع تحقيق هذا الوعد، وفى الوقت نفسه يستعدون لمهمة استحال تنفيذها لمن حاول من قبلهم، ألا وهى ضبط حال السوريين عن طريق الاشتراك معهم فى إدارة شئونهم وحكم بلادهم وإلهائهم عن حلم حياتهم، بذل الغالى والرخيص فى العمل من أجل الوحدة العربية، باعتبارها الحل الأمثل لتعددية مجتمعهم. أما الأردن فوحدته يهددها إصرار إسرائيل على دور له فى النظام الشرق أوسطى الجديد كوطن بديل، مع العلم بأنه يبدو أن من قراءة التوزيع الأحدث لتوازنات القوة أن لكل دولة فى الإقليم دورا، بل وفى الإعداد له، بشرط التخلى عن أى التزام قومي، وأظن أن المراقب الحريص والمتأنى يستطيع أن يستدل على دول فى الإقليم أبدت بالفعل قابليتها واستعدادها لاستقبال هذا «اليوم التالى».