حكايتى مع حلى أسوان
عزة فهمي
آخر تحديث:
الأربعاء 25 ديسمبر 2024 - 7:35 م
بتوقيت القاهرة
من حوالى 40 سنة فاتت، كنت أول مرة أجلس فى تراس فندق «جراند أوتيل» الشهير فى أسوان، الإحساس والاندهاش وقتها بالمكان جعلانى كأنى مسحورة، مساحة البلكونة وموقعها بالنسبة للمكان، منظر النيل العريض أمام الفندق والصخور الضخمة بأشكالها وأحجامها المهولة العظيمة الرائعة، واقفة بشموخ غاية فى العجب، تساءلت كيف للطبيعة أن ترسم وتصمم أماكن يصعب جدا على البشر محاكاتها ومضاهاة تلك القوى الخارقة.
أعتقد أن كمية الأفكار والإلهامات التى راودتنى فى هذا المكان الفريد وقتها شكلت جزءا كبيرا من مشاريعى المهنية المستقبلية، مر 40 سنة وبعدها رجعت إلى أسوان بحلم أنى سأعلم شبابها معنى كلمة (إبداع).
أوائل السبعينيات، كنت انتهيت من تدريبى الأولىّ على فهم مبادئ حرفة الصياغة من معلمى الحرفة فى خان خليلى، بدأت بفتح ورشة صغيرة تحت شقتنا فى حلوان لتنفيذ بعض الموديلات البسيطة، أبيعها للأصدقاء وأصدقاء الأصدقاء، استمريت حوالى 3 سنوات، أجتهد وأطبق ما تعلمته فى الخان من تقنيات.
بعد فترة من الزمن تطورت فنيا وثقافيا من اطلاعى على أعمال فنانى حلى عالميين، كذلك من خلال زياراتى المتكررة للمتاحف المصرية، كما حمل لى أصدقائى كتبا عن هذا الفن وهم قادمون من رحلات من الخارج، كتاب عن فن الحلى بالنسبة لى كان أحسن هدية ممكن أن تهدى لى، أصبح عقلى أقوى من يدى.
فى أواخر السبعينيات، أنشأت ورشة صغيرة فى بولاق الدكرور، قريبة من منزلى فى المهندسين فى المكان الوحيد المسموح به لأخذ رخصة تشغيل، وقتها بدأت أفكر أن أستعين بعمالة من الجنس اللطيف فى مشروعى الأول بالورشة الصغيرة، بدأت بتعيين 6 عمال مستواهم الحرفى مرتفع إلى حد ما، وقررت أن أعين بنات مساعدات لهؤلاء العمال يتعلمن الحرفة خطوة خطوة بمساعدة المعلمين.
فى منتصف السبعينيات، طلب دكتور «دانيال» مدير المركز البريطانى أن أمر عليه فى مكتبه، كان من المتحمسين لمشروعى الصغير، وكان دائما مطلعا على تطور أعمالى وأفكارى، حددنا الميعاد وذهبت إليه فى مكتبه ليفاجئنى بأن الحكومة البريطانية وافقت على إعطائى منحة دراسية مدتها سنتان لدراسة فن تقنيات الحلى فى واحدة من أهم معاهد لندن لهذا التخصص، لا أستطيع أن أصف لكم.. كم كانت تلك اللحظة من أهم لحظات حياتى، كم أحمل لهذا الرجل جميلاً كبيرًا لهذه المنحة.
لندن بالنسبة لى كانت الانفتاح، المعارض والمتاحف والأساتذة فى المعهد الذين يشرحون لك بشكل علمى كيفية صنع الأشياء.. (التعليم الجيد هو المفتاح لكل نجاح). رجعت بعدها إلى القاهرة أقوى تقنيا.
• • •
فى النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضى، أصبح لدى أربع فتيات وسيدات يعملن كمساعدات لأسطوات مهمين مثل «صباح راشد»، «هناء كمال»، و«منى حنفى» إلى جانب «أم أمير».
كنت سعيدة جدا بالتجربة وبتطورهن، كن ملتزمات، مجتهدات، وجادات فى التعلم. ولكن دائما تظهر مشكلة فى الأفق بمجرد أن يظهر العريس، وبعد فترة الخطوبة أو الزواج، ينتهى كل شىء، ويكون قرار الاستقالة والبقاء فى المنزل هو قرار الزوج.
استمرت ورشة بولاق الدكرور لمدة 15 سنة فى العمل والإنتاج وتنفيذ مجموعات عزة فهمى الفنية، ثم بدأنا نشعر بأن المساحة ضاقت علينا. وكان لابد أن ناخد قرارا بالانتقال إلى المنطقة الصناعية فى 6 أكتوبر، كان ذلك سنة 2004 بعد أن أتيحت لنا فرصة للحصول على أرض فى موقع متميز بالمنطقة الصناعية الأولى.
تطور المشروع وصرنا شركة لها هيكل وظيفى من ماليات وحسابات إلى تسويق ودعاية إلى أقسام للإنتاج وقررنا زيادة عدد العمال حتى نزيد حجم الإنتاج، حيث زاد الطلب على منتجات عزة فهمى، وقررنا التركيز على تدريب عمال جدد بمهارات حرفية عالية.
كان دائما اختيارى الأول للعمال والحرفيين من الرجال، تعلمت خلال الفترة الماضية أن مشاكل تدريب الفتيات واستثمار الوقت فيهن تتبخر بعد الزواج والارتباط الأسرى، الكلمة الأخيرة فى قرار عمل المرأة، للأسف، ليست بيدها بل بيد الزوج أو الأب، كما أن خبرتى السابقة من عملى فى منطقة خان خليلى والصاغة ومعرفة معظم الورش فى هذا الحى الحرفى الشهير، أن الفتيات يعملن هناك للمساعدة فى مراحل معينة بسيطة فيها تكرار كبير، كلحام مئات وحدات الحلقات الفضية الصغيرة على لوحة للتحضير لعملية اللحام حتى تكون فى النهاية (سلسلة)، لم أجد للأسف فى الصاغة أو الخان وقتها سيدة أو فتاة واحدة يمكن أن يطلق عليها كلمة (صائغة)، الفتيات يتخصصن فى عمل مرحلة واحدة فقط لمساعدة المعلم.
انحيازى للمرأة كنت وما زلت متحمسة لها جدا فى العمل، وظفنا عددا لا بأس به من فتيات بمصنعنا الجديد ولكن فى وظائف «العمالة المتوسطة»، مخصصة لعمليات معينة فقط، مثل العمل فى المخازن أو تنسيق الأحجار فى القطع، ولمساعدة السيدات فى المصنع أنشأنا حضانة خاصة داخل المصنع لتمكين السيدات من رعاية أطفالهن الصغار، وظل رأيى دائما هو أن نبتعد عن توظيف فتيات فى صالة الإنتاج كحرفيين.
• • •
بعد سنوات، وفى عام 2019، أنشأنا مؤسسة «عزة فهمى» غير الهادفة للربح للتركيز على التدريب المهنى للحرف، قطعة الحلى الجيدة تحتاج شخصين، المبدع والحرفى هما طرفان يكملان بعضهما، أردنا أن نساعد المصممين خريجى مدرسة عزة فهمى فى إنشاء مشاريعهم الخاصة وتخريج حرفيين مهرة يساعدون فى عمليات الإنتاج.
كانت المفاجأة بالنسبة لى بعد الإعلان عن فتح باب القبول فى المدرسة فى أعداد الفتيات اللواتى تقدمن للتدريب فى مؤسستنا للعمل فى حرفة الصياغة، كانت نسبة الفتيات والسيدات دائما تفوق نسبة الشباب، فكانت نسبة الفتيات 70% والشباب 30%. وذلك بسبب طموح هؤلاء الفتيات فى تحقيق حلمهن بأن يكنّ مصممات حالمات.
كم تغير فكر الفتيات المصريات كثيرًا فى خلال الثلاثين سنة الماضية، وأصبحن قادرات ومصممات على دخول مجالات جديدة، كانت مقتصرة فقط على الرجال.
• • •
سنة 2021 جاءت للمؤسسة الفرصة لعمل مشروع فى أسوان بالتعاون مع مؤسسة ساويرس وبنك الإسكندرية لفتح مدرسة للحلى فى أسوان لتعليم الشباب حرفة الصياغة والإبداع أطلقنا عليها.. اسم (حلى أسوان)، يدير هذا المشروع مؤسسة عزة فهمى بالتعاون مع مدرستنا المتخصصة فى الإبداع.
الشهر الماضى احتفلنا بنهاية مشروع التدريب وتخريج الطلبة، سافرت إلى أسوان لحضور حفلة نهاية السنة الدراسية ورؤية قطع الحلى التى صنعوها وأبدعوا وتدربوا عليها خلال تلك الفترة.
كان لى زيارة للمدرسة لمقابلة الخريجات هناك ومناقشتهن ومعرفة رأيهن فى التدريب الذى أخذنه، فى تلك اللحظة كان الموضوع الذى يهمنى بجانب مستواهن المهنى هو موقف الأسرة من عملهن، سواء الزوج أو الأب أو الأخ.
كان سؤالى الأول لكل فتاة وسيدة هل كان لدى الأهل أى اعتراض على عملك؟ وما كان رأى الأزواج بالأخص لدى السيدات المتزوجات اللاتى لديهن أطفال؟.. كانت الإجابة فى البداية أن هناك مجموعة من الأسر والآباء كانوا يحرقون ويقطعون التصميمات الورقية التى كانت الفتيات يعملن عليها وأحيانا يدمرون القطع التى قاموا بتصميمها.
لكن إصرار الفتيات على الاستمرار فى التدريب والتعلم، والإصرار على إكمال الفترة، قد غيّر من رأى الآباء والأزواج، وتقبلوا فكرة عمل المرأة فى هذه المهنة وكانت المفاجأة الكبرى لى هى التعاون الذى ظهر من الآباء والأزواج والأخوة فى تقبل فكرة التدريب والاستمرار فيه إلى نهاية الفترة، بل إن بعض الأسر قد أظهرت تعاونا فعليا فى مساعدة الفتيات على تطوير مشروعاتهن.
بعض من السيدات والفتيات أصبح لديهن صفحات إلكترونية لتسويق منتجاتهن على السوشيال ميديا، واللطيف فى الموضوع أن الأزواج هم المتولون الجزء التسويقى فى المشروع، لم أصدق ما سمعته كيف خلال الثلاثين سنة الماضية، حققت المرأة والفتاة الأسوانية، تطورا كبيرا فى اتخاذ قرارات العمل).
لكن فى الحقيقة، كان إعجابى الأكثر بالأسرة والتطور الذى حدث خلال الثلاث عقود الماضية والتغيير الاجتماعى الكبير للمرأة الصعيدية والأسوانية والنوبية، هذا جعلنى أوجه الشكر أولا للآباء والأخوة والأزواج الذين تغيرت نظرتهم لعمل المرأة من الرفض والاعتراض على دخول مجال العمل إلى الدعم والمساندة.
رجعت من أسوان وأنا عاجزة عن أن أصف كم الفرح بالتأثير الذى حدث هناك ودورنا فيه.