25 يناير المصرى والشرعيات الثلاث

فوّاز طرابلسى
فوّاز طرابلسى

آخر تحديث: الخميس 26 يناير 2012 - 9:35 ص بتوقيت القاهرة

هذا الـ٢٥ يناير (كانون الثانى) ٢٠١٢ هو قبل أى شىء آخر يوم للفرح.

 

فرح بنات الشعب المصرى وأبنائه وهم يحتفلون بأم الثورات العربية فى أم الدنيا.

 

ولا يسع مواطنا عربيا يحلم معهم بالخبز والحرية والورد إلا أن ينضم، بالصورة والصوت والرمز والشعور، إن لم يستطع بالجسد، إلى الملايين منهم تحتفل بالحدث التاريخى فى الميادين والساحات والشوارع فى وادى النيل. ويتم الاحتفال لاول مرة فى ظل غياب قانون الطوارئ المفروض منذ العام 1971، فإذا المطلب الأول للثورة يفرض نفسه بعد سنة بأن أعلن المشير حسين طنطاوى إلغاءه عشية المناسبة.

 

●●●

 

هو فرح بالإنجازات: إسقاط رئيس دولة سلاطينى توريثى وإحباط محاولة تولية نائبه وفق ترسيمة أمريكية ــ خليجية صارت مألوفة لانقاذ الانظمة من بين أيدى شعوبها، طبّقت فى اليمن والسعى جارٍ الآن لتطبيقها فى سوريا. وأسقطت وزارة وفُرِضت الانتخابات النيابية وافتتحت المسيرة الانتقالية الدستورية بعد عام لا أكثر من تاريخ اندلاع الثورة. والأهم افتتاح محاكمة الرئيس المخلوع وابنيه وبطانته. فقارِن مشهد حسنى مبارك فى المحكمة بعلى عبدالله صالح يغادر البلاد بالرعاية الأمريكية ــ الخليجية ذاتها، ولا يجد من كلام غير طلب العفو على التقصير، كأنه لم يرتكب بحق شعبه كل قبائح الدنيا والآخرة بما فيها النهب والمجازر، بل كأنه دعا الشعب اليمنى إلى وليمة لم يقم فيها بواجب الضيافة كاملا!

 

هذه إنجازات تاريخية لم تكن لتتحقق لولا أن ما يجرى هو ثورة ترفع شعارات «العمل والحرية والخبز» وتسير تحت راية «الشعب يريد إسقاط النظام». أى لولا التظاهرات والاعتصامات المليونية فى إرجاء البلاد الواسعة، وقد لعب فيها الشباب من الفئات الاجتماعية كافة دورا بارزا، وفرضوها بضغط الحشود، وبقوة التماسك والجرأة والصمود واستعادة كرامة من بات لهم صوت ورأى بعد إن كانوا مجرد أعداد، فدافعوا عن ميادين تحريرهم والساحات ضد الاغلاق والاجتياح، وأحبطوا محاولات متكررة لإشعال الفتن الطائفية فى حوادث إحراق الكنائس ومجزرة ماسبيرو ومحاولة احراق الميدان بأهله، واخيرا وليس آخر، تصدّوا للابتزاز بسوء الاحوال الاقتصادية والامنية ودعاوى «الأمن الاجتماعى» أعذارا لوقف المسار الثورى.

 

●●●

 

يطل العام الثانى من الثورة على مصر وهى مسرح للتنافس والحوار والتفاوض بين قوى ثلاث، لكل شرعيتها. ولعل تشخيص هوية كل واحدة من هذه القوى وأهدافها والوسائل يسمح بإطلالة على ما قد ينتظر الشعب المصرى وثورته فى العام المقبل.

 

ــ الجيش (بالقدر الذى يمثله «المجلس الأعلى للقوات المسلحة»). وهو الركن الأساسى للنظام السابق يستمدّ قوته و«الشرعية» من قوته العسكرية وامتداداته الأمنية واحتكاره العنف، وأيضا من استمراريته كسلطة أمر واقع ومن دعم القوى الخارجية العربية والإقليمية والدولية له. وعلاقة القوات المسلّحة المصرية بالسلطة لها خصائص لن تلقاها فى سائر الانظمة العسكرية. فهى قوة اقتصادية وانتاجية واستراتيجية تتصرّف بموارد ومرافق ووسائل اتصال ومواصلات، لكنها تتمتع، فى المقابل، بمقدار كبير من الاستقلال الذاتى فى إدارة شئونها بذاتها، من دون الخضوع الفعلى للسلطة السياسية ولرقابة المؤسسات المدنية. ويستمدّ المجلس العسكرى «شرعيته» فى الثورة ــ وليس منها ــ لدوره فى رفض الأوامر القاضية بإخمادها بالسلاح، وإن يكن لم يحجم عن اللجوء إلى القمع والسلاح عندما باتت السلطة الانتقالية بعهدته بعيد تنحى مبارك.

 

ــ شرعية شعبية متجسدة فى «مجلس الشعب» صادرة عن انتخابات حرّة شهدت إقبالا واسعا من الناخبين، أدت نتائجها إلى انقلاب كبير فى موازين القوى السياسية فى البلاد، حيث احتلّت التنظيمات الإسلامية مجتمعة ما يربو على ثلاثة أرباع المقاعد بعد أن تلاشى تمثيل حزبى الوفد والوطنى الديموقراطى، ويرجح أن ناخبى هذا وذاك صوّتوا فى معظمهم للمرشحين الإسلاميين. ولا بد من التنبيه هنا ان هذه الانتخابات تمت وفق نظام انتخابى وفى ظل دستور، كلاهما قيد الدرس.

 

ــ شرعية ثورية تتشكل فى قوة ضغط جماهيرية أطلقت الثورة بكثير من العفوية وتكبّدت وتتكبد القسط الأكبر من المسئولية والتضحيات من أجل تأمين استمراريتها نحو بناء دولة مدنية ديمقراطية قائمة على حكم القانون والمؤسسات الدستورية المنتخبة.

 

لابد من ملاحظة ما بين الشرعيتين الشعبية والثورية من تفارق. نال أصحاب الشرعية الثورية من مقاعد مجلس الشعب أقل من وزنهم الحقيقى فى الشارع والميدان والمجتمع، وخصوصا اقل من وزنهم فى الفعل الثورى الذى أتاح للانتخابات أن تنعقد وتجرى بحرية. فى المقابل، نال أصحاب الشرعية الشعبية حصة من مقاعد البرلمان أكبر مما يخوّله لهم وزنهم فى الثورة.

 

●●●

 

تكاد المنافسة والنزاع بين القوى الثلاث يتلخصان فى المعانى المعطاة لمفردتى «مدنى» و«مدنية».

 

تلتقى الشرعيتان الثانية والثالثة فى تفسيرهما المعنى الأول عند مطلب النقل المباشر للسلطة الانتقالية من العسكريين إلى المدنيين. على أن الأمر ليس بهذه البساطة. فى الامر شرعية رابعة. لما كان جزء كبير من شرعيات السلطات العربية ممنوحا من الخارج، ومستمدا منه، تلقى التنافس على أشدّه بين الغالبية البرلمانية الجديدة والمجلس العسكرى على اكتساب تلك الشرعية عن طريق تقديم أوراق اعتماد أساسية للراعى الأمريكى ــ الخليجى. يقدّم المجلس العسكرى تعهده الامن الإقليمى والحدودى وضمان الاتفاقيات (مع اسرائيل خصوصا) إلى رعايته «الأمن الاجتماعى». ويضيف اليها تعهدات قد تبدو مفوّتة: الجيش بما هو الضمانة فى وجه «التطرّف الإسلاموى». فى المقابل، تقدّم الاكثرية النيابية الاسلامية الاخوانية الالتزام بالسياسات النيوليبرالية وباتفاقية كامب ديفيد و«العلاقات التقليدية» مع أوروبا والولايات المتحدة. فتردّ الإدارة الأمريكية التحية بأجمل منها، فيهنئ مصدر رسمى أمريكى حزب «النور» السلفى على فوزه بربع مقاعد مجلس الشعب!

 

يدور المعنى الثانى لـ«المدنية» مدار معانيها فى انتظام العلاقة بين الزمنى والدينى والمقدّس فى الدستور والمؤسسات. هنا تتفارق الشرعيتان الشعبية والثورية حول تضمين الدستور المبدأ الديمقراطى الصريح عن المساواة السياسية والقانونية بين المصريين بما هم مواطنون. والمعنى المساواة بين رجال ونساء وبين مسلمين وغير مسلمين أمام القانون وفى الحقوق السياسية، كالانتخاب والترشّح وتسلّم الوظيفة العامة، القضاء، إلخ.

 

أما الخلاف المتوقع الثانى، فيتعلّق بالتشريع. أصرّ السلفيون على افتتاح حضورهم فى مجلس الشعب بطرح الموضوع حين قالوا، عند القَسَم: نخضع للدستور شرط ان لا يتعارض مع شرع الله. والسؤال: من يتولى تفسير «شرع الله» والتأويل: السلطات المدنية المنتخبة، والاستفتاء الشعبى العام عند الضرورة، أم المراجع الدينية المعيّنة ذاتيا من خارج الانتخاب والسيادة الشعبيبن.

 

مسألتان فى جوهر الديمقراطية قبل أن تكونا من عنديات العلمانية التى تبقى فى الأساس البسيط منها تدبيرا سياسيا يؤسس لحياد الدولة الدينى ولا يقحم الإيمانى والمقدّس فى شئون الحكم.

 

●●●

 

يبقى أن كل الدلائل تشير إلى أن من حاز ثلاثة أرباع مقاعد مجلس الشعب لن يستطيع أن يشكل حكومة ائتلاف وطنى تراعى الحد الأدنى من التوازن الوزارى فى غياب أى توازن نيابى. خيرٌ لليبراليين والديمقراطيين والقوميين واليساريين أن يتركوا التيار الإسلامى يتحمل مسئولية نتائج الانتخابات بأن يحكم منفردا.

 

أن تكون ثوريا أو ثائرا فى الثورات العربية بات يعنى الآن أن تكون فى المعارضة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved