باقولك أيام سودا!
بلال فضل
آخر تحديث:
الأحد 26 يناير 2014 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
تعال أولا نقرأ الفاتحة على أرواح شهداء العمليات الإرهابية الجبانة من الضباط والجنود والمدنيين الذين سقطوا فى القاهرة والجيزة وبنى سويف وقبلها فى المنصورة وسيناء، وعلى أرواح شهداء المظاهرات السلمية الذين سقطوا منذ 25 يناير وحتى اليوم دون أن يعاقب على قتلهم أحد، ثم تعال بعدها ندعو بالرحمة لهم جميعا، ونسأل الله أن يرزق أمهاتهم وأحبابهم الصبر والسلوان، وأن يرزق الجرحى الشفاء العاجل، وأن يعجل خلاصنا من هذا الكرب الكابوسى الذى نعيشه، ثم بعد أن تنتهى من ذلك، أرجوك لا تكمل قراءة باقى المقال لأنه لن يكون مجديا على أية حال أيا كان ما به.
ليس فى كلامى هذا يأس كما قد تظن، مع أن اليأس ليس عيبا على الإطلاق كما سبق أن كتبت، بل هو كلام واقعى يدرك طبيعة المرحلة الهستيرية التى نحياها، والتى لا تجعل لأى كلام أيا كان أى معنى، لكننى مع إدراكى لذلك أكتب، وأنت تقرأ ــ إذا كنت لا تزال تقرأ ــ لأن كلا منا يفعل ما يظن أنه يتوجب عليه فعله، حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.
المشكلة فى أوقات بائسة كهذه، أنك كلما جئت لتكتب شيئا تتذكر أنك قلته قبل ذلك، لأننا لم نعد نكرر تاريخنا دون أن نتعلم من أخطائه، بل أصبحنا نكرر حاضرنا نفسه بكل بواخته وسخفه وغباوته، يمكن أن تتأكد لو رجعت إلى المقال الذى كتبته عقب التفجير الإرهابى لمديرية أمن المنصورة، وستجده صالحا للنشر بحذافيره بعد تغيير كلمة المنصورة، دون حتى أن يتغير اسم وزير الداخلية الذى لا يزال مسيطرا على منصبه، لأن حكامنا يعتقدون كأسلافهم أن تغيير المسئول الفاشل المجرم أمر يخل بهيبة الدولة، مع أنهم لو كانوا يمتلكون عقولا تفكر لأدركوا أن الإبقاء على مسئول تلوثت يداه بدماء الناس لن ينجح إلا فى زيادة نيران الأحقاد اشتعالا.
للأسف، فى هذه الظروف الخنيقة التى تمر بها البلاد، لن تجد ما هو أثقل وطأة على النفس من شخص يلهج لسانه بجملة «مش قلت لكو»، ولأنك تعرف ذلك جيدا، فأنت ستحرم نفسك من حقك فى التذكير بأشياء كتبتها، أولا لأنها مش ناقصاك، وثانيا لأنه عندما تدخل الشعوب دائرة الدم، تفقد الكلمة الطيبة معناها، لأن القتلة سيكونون مشغولين بمواصلة القتل، أما الضحايا فسيكونون موزعين ما بين حزنهم ورغبتهم فى الانتقام، وعندها ستصبح الكلمات الوحيدة التى تحب الأغلبية الساحقة الاستماع إليها، هى الكلمات الخبيثة التى تحض الناس على الانتقام والقتل والبطش، وسيكون عندها من السخف أن تطلب من أحد أن يهدأ ليتذكر بماذا أفادنا القمع والقتل لكى نواصله وندعو إلى المزيد منه؟.
«آفة حارتنا النسيان»، قالها نجيب محفوظ من قبل فأوجز وأنجز ولم يدع لنا شيئا نكتبه بعده، للدقة ليس النسيان آفتنا دونا عن كل العالمين، قالها من قبل شاعر قديم: «وما سُمِّى الإنسان إلا لنسيه»، ولذلك تداوم الشعوب المتقدمة على التخلص من آفة النسيان بإنعاش ذاكرتها بوسائل من بينها قراءة التاريخ وزيارة المتاحف، أما نحن فعلاقتنا بالتاريخ تنتهى بعد «طرش» ما حفظناه من مناهجه المحرفة السقيمة على ورقة الامتحان، فى حين لا نتذكر المتاحف إلا عند تدميرها فى حادث إرهابى، أو احتراقها ونهبها فى لحظات الفوضى المنظمة.
النسيان، لن تجد سببا لمصائبنا سوى النسيان، ولذلك ستجد بين أنصار جماعة الإخوان من يتهم جهات مخابراتية بتدبير العمليات الإرهابية، ناسيا أنه كان يطرب لكل ما يطلقه قادته من تهديدات بإسالة الدماء وتفجير البلاد لو عُزل مرسى، ستجد أيضا بين أنصار الإخوان من يطالب بالتثبت قبل اتهام جماعته ناسيا أنه كان يبادر إلى اتهام خصومه كلما وقعت مصيبة ناتجة عن إهمال أو فساد، ستجد أيضا بين أعداء جماعة الإخوان من يطالب بإعدام قادة الإخوان وأنصارهم انتقاما وثأرا، ناسيا أننا منذ لحظة التفويض المشئومة لا نشكو إطلاقا من نقص فى أعداد القتلى فى الشوارع، ومع ذلك ما زالت أحوالنا الأمنية تتدهور من سيئ إلى أسوأ، وستجد ملايين يظنون أن خلاصنا الوحيد سيكون فى العودة إلى حكم الفرد القادر على الشكم والقمع، ناسين أن ما أوصلنا إلى ما نحن فيه الآن من بلاء وبلاوى لم يكن سوى حكم الفرد المستبد.
ما العمل إذن؟، هل علينا أن نجتهد فى تذكير الناس بأن قمع تنظيم الإخوان فى 1954 كان سببا فى إنتاج أفكار سيد قطب الإرهابية فى كتاب (معالم فى الطريق)، وأن اعدام سيد قطب فى 1965 هو الذى جعل افكاره تنتج شكرى مصطفى وأيمن الظواهرى وغيرهم من الإرهابيين الذين يمنحهم الفقر والتخلف وقودا مجانيا لأفكارهم الدموية، وأن منطق التضحية بالحرية من أجل الأمان لم يجلب لنا إلا الذل والخوف والهزيمة، وأن سيادة الأصوات الغوغائية المنفلتة التى لا تؤمن بالحلول السياسية لن تنتج إلا المزيد من الدم والأحقاد، وأن هناك قانونا جربناه أكثر من ستين سنة يقول إن «السلطة المطلقة مفسدة مطلقة»، لذلك علينا أن نتوقف فورا عن منح صلاحيات مطلقة لمسئولين فشلة دون أن نحاسبهم ونراقبهم، لكى لا نجر الوطن إلى مزيد من الفشل والخراب.
هل سيكون مجديا أن نذكر الناس بأى من هذه الحقائق؟، بالطبع لا، فالذكرى لا تنفع إلا المؤمنين بقيم العدالة والحرية والمساواة التى فطر الله الناس عليها، أما الذين لا يؤمنون إلا بالقوة الباطشة، فهم لن يستمعوا إلا إلى مثقفى السلطة الذين يزينون للناس أن خلاصهم سيكون بأن يسلموا أنفسهم دون قيد ولا شرط لمن سيحميهم من الإرهاب، دون حتى أن يتأكدوا من قدرته على حمايتهم، أو يرفضوا كيف تواصل قراراته العشوائية صناعة الإرهاب كل يوم.
سيتعلم الناس بالتجربة وحدها أن تكرار أخطاء الماضى لا يمكنه أن يصنع مستقبلا أفضل، لكن هل نحيا أنا وأنت حتى يحدث ذلك أم لا؟، علم ذلك عند الله، وحتى تعبر هذه الأيام السوداء، وتجيب دائرة الدم آخرها، أو يجيب الناس آخرهم منها فيتوقفوا عن إكمالها، ليس لنا إلا أن نرجو الرحمن الرحيم رجاء أجدادنا الأثير فى النوائب والملمات: «يا خفى الألطاف نجنا مما نخاف».