الوزير.. والسياسة فى مصر
محمد علاء عبد المنعم
آخر تحديث:
الجمعة 26 يناير 2024 - 10:35 م
بتوقيت القاهرة
يمكن اختصار علاقة الوزير بالسياسة فى مصر فى أربعة أنماط رئيسية، هى الوزير التكنوقراط، والوزير السياسى، والوزير السياساتى، والوزير التكنوقراط المسيّس.
• • •
الوزير التكنوقراط هو النمط الأصيل للوزير المصرى منذ نظام يوليو 1952، وينبنى على اختيار الوزير عارفا بفنيات وزارته ودخائل جهازها الإدارى، كاختيار وزير الصحة من أساتذة كلية الطب أو طبيبا بشريا، أو اختيار وزير الزراعة من أعضاء مجالس إدارة إحدى الهيئات التابعة للوزارة. ويكون الوزير وفق هذا النمط إما أستاذا جامعيا أو من أبناء بيروقراطية الوزارة.
وقد أخرج هذا النمط وزراء لمعت أسماؤهم فى تاريخ الوزارات المصرية، خاصة أن العرف قد جرى على ألا يخرج اختيار الوزير فى وزارات معينة عن جهازها البيروقراطى، ومنها وزارات سيادية، فوزير الخارجية فى الغالب الأعم دبلوماسى محترف career diplomat، ومثله وزير الداخلية، ووزير الدفاع، إلخ.
وإلى جانب الوزارات السيادية، تبرز أهمية الوزير التكنوقراط فى الوزارات الخدمية ذات الفروع الممتدة فى أنحاء الجمهورية، خاصة حين يكون من أبناء الجهاز الإدارى لوزارته، وذلك بالنظر لصعوبة فهم تعقيدات الجهاز البيروقراطى للقادمين من خارج وزارات شديدة التعقيد والاتساع مثل وزارات التعليم والزراعة، وهو ما قد يفسر الصعوبات التى واجهت عدة محاولات إصلاحية فى مجالات عمل هذه الوزارات.
• • •
أما الوزير السياسى فهو مصطلح يحتمل أكثر من تأويل حسب الفترة الزمنية التى نتحدث عنها، وهو يختلف بطبيعة الحال فى مصر عن الوضع فى النظم الديمقراطية المستقرة، ففى الأخيرة، تلعب الأحزاب السياسية أدوارا رئيسية فى ربط السياسيين بالمواطنين والمواطنات، وتقوم الأحزاب بالدور الأساسى فى رسم الانحيازات الاجتماعية والفكرية لسياسات الحكومة، ويوجد جهاز بيروقراطى خاضع للرقابة العامة، هنا يكون الدور الرئيسى للوزير سياسيا، أى مُنصب على صياغة التوجهات الاستراتيجية للوزارة والدولة، وعقد الصفقات مع الحلفاء والخصوم لصياغة وتمرير سياسات معينة.. إلخ. أى أن الدور السياسى للوزير يكون مرتكزا على العمل السياسى politics من أجل الوصول والبقاء فى السلطة وصياغة وتمرير السياسات policies التى تعكس التوجهات السياسية للحزب.
فى مصر، ارتبط تاريخ الوزراء المسيسين منذ نظام 1952 بالسياسة بمعنى العملية السياسية politics وليس السياسات policies، ومن بين الوزراء الذين احترفوا السياسة فى عهد الرئيس الأسبق مبارك لمعت أسماء على رأسها قيادات من الحزب الوطنى المنحل مثل صفوت الشريف وكمال الشاذلى وعدد ممن تلاهما من الذين عُرفوا بالحرس الجديد بالحزب، وقد لعبت هذه المجموعات أدوارا هامة فى الحشد والتثقيف السياسى، وإدارة الانتخابات، وعقد الصفقات وتوزيع المكتسبات السياسية.. إلخ.
وشهدت مصر منذ 2011 فترة استثنائية من الوزارات التى غلب عليها الطابع السياسى بالمعنى الأيديولوجى، وذلك خلال حكومتى عصام شرف وحازم الببلاوى.
• • •
النمط الثالث للوزراء المصريين هو الوزير السياساتى، أى الوزير الذى يأتى إلى الوزارة برؤية واضحة لإصلاح السياسات policies، وعليه فى سبيل هذا الإصلاح التعامل مع بيروقراطية الوزارة، وبناء تحالفات داخلها وخارجها، ومواجهة جماعات المصالح المستفيدة من الأوضاع القائمة. وتبرز صعوبة هذا الدور فى الوزارات الخدمية ذات البيروقراطيات المتشعبة والمعقدة، وما يرتبط بها من جماعات استفادت من هذا التشعب على مدى عقود.
ويبرز هنا اسم وزير التعليم السابق الدكتور طارق شوقى، الذى جاء إلى وزارة التعليم برؤية إصلاحية شاملة بنيت على سنوات من العمل داخل وخارج مصر، ولكن افتقدت التجربة للقدرة على بناء تحالفات من المناصرين للإصلاح سواء فى القطاع الخاص أو الأهلى أو حتى بين المستفيدين من أولياء الأمور، وإقامة تحالفات داخل البناء البيروقراطى المعقد لوزارة التعليم يسمح بترجمة التوجهات الاستراتيجية للوزير إلى سياسات ترى النور، حتى بدا الوزير فى كثير من الأحيان وحيدا أمام مناوءات من داخل الوزارة وتكتلات خارجها، واختار أن يخاطب الجمهور مباشرة دون متحدث إعلامى يتلقى عنه الهجوم، ولا أرى أن التجربة قد فشلت، بل أرى أن لها آثارا بعيدة المدى ربما يتمكن آخرون من البناء عليها واستكمال ما بدأته وإصلاح ما أخفقت فيه.
• • •
أخيرا يوجد الوزير التكنوقراط المسيس. وهو تكنوقراط لأن أساس صعوده ارتبط بمكانة أكاديمية أو مسار مهنى فى بيروقراطية الدولة، لكن حدث تجاوز لهذه الحدود من خلال الانخراط فى عمل سياسى منظم يرتبط بأنشطة الحشد أو التوجيه السياسى لدفة قضايا الشأن العام، أو من خلال تبنى رؤى إصلاحية وترجمتها فى شكل سياسات قابلة للتطبيق، أو كلتيهما.
وتتعدد أمثلة الوزراء من التكنوقراط المسيسين فى التاريخ المصرى، ومن أبرز الأسماء التى تمثل هذا النمط الدكتور بطرس غالى، وزير الدولة للشئون الخارجية ونائب رئيس الوزراء ووزير الهجرة لسنوات عدة، وقد بدأ حياته أستاذا للقانون والعلاقات الدولية بجامعة القاهرة، ثم لعب أدوارا سياسية ودبلوماسية فى مراحل مفصلية من التاريخ المصرى. ومن الأمثلة الأخرى الدكتور فتحى سرور والدكتور مفيد شهاب وغيرهم كُثر.
ومن الوزراء التكنوقراط من يمكن وصفه بالمسيس ليس بسبب الانخراط فى العملية السياسية من خلال صياغة توجهات وسياسات عليا للدولة، أو المشاركة فى الحشد والتوجيه السياسى، ولكن بسبب تبنى سياسات إصلاحية فنية والعمل على تمريرها من خلال بناء تحالفات والتواصل مع قواعد جماهيرية بشكل أو آخر. ومن أمثلة هذا النمط تبرز أسماء لها إسهامات يُعتد بها مثل الدكتور محمود محيى الدين وأسماء أخرى مؤثرة فى الحكومة الحالية للدكتور مصطفى مدبولى.
• • •
السؤال الذى يطرح نفسه هنا هو: ما الذى نحتاج إليه الآن ونحن فى بداية فترة رئاسية جديدة للرئيس عبدالفتاح السيسى، تتمثل فيها تحديات عدة، ولا تخلو من تطلعات للتأسيس لحياة سياسية على قدر من الانفتاح والقبول لتعدد الآراء والاتجاهات؟
ما الذى نحتاج إليه فى وزراء المرحلة المقبلة، بصرف النظر عن الأسماء؟
أرى أننا بحاجة إلى توليفة من الأنماط السابقة، بأوزان مختلفة لكل منها.
لا شك أننا فى حاجة إلى تكنوقراط على دراية بالجوانب الفنية لوزاراتهم، خاصة مع تعقد التحديات التى تواجهها الدولة فى مجالات مثل التعليم والرعاية الصحية والسياسات الاقتصادية، وغيرها، والضغوط المالية التى تفرض تقشفا فى سياسات معينة تحتاج بالضرورة إلى التوسع فى الإنفاق وليس تقليصه، وعلى رأسها التعليم والصحة.
لذا فإننا نحتاج أيضا إلى رؤى من خارج الصندوق، وإلى مسئولين لديهم القدرة على وضع سياسات واستراتيجيات قابلة للتنفيذ، وبناء تحالفات داخل الحكومة وخارجها.
نحتاج إلى وزراء لديهم القدرة على مخاطبة الجماهير، وخبرة تنفيذية فى بيروقراطية الدولة، والقدرة على بناء فِرَق عمل تتماهى فى أفكارها مع توجهات القيادات الوزارية.
نحتاج إلى بلورة رؤى سياسية يمكن الحديث عنها مع المواطنين والمواطنات، ومع الشركاء الخارجيين، وبناء مواقف تفاوضية على أساس رؤية متكاملة لاحتياجات الدولة وتوجهاتها.
نحتاج إلى وزراء تكنوقراط ومسيسين وأصحاب سياسات.
نحتاج إلى توليفة هى بالفعل معقدة، فى ظروف لا تقل تعقيدا.