خواطر حول البرادعى.. ومشكلة الحكم فى مصر
جلال أمين
آخر تحديث:
الجمعة 26 فبراير 2010 - 9:44 ص
بتوقيت القاهرة
تابعت بالطبع، كما تابع ملايين المصريين، أخبار الدكتور محمد البرادعى، منذ ذكر اسمه كمرشح ممثل لمنصب رئاسة الجمهورية، ثم اشتد اهتمامى بأخباره، مثل غيرى، منذ سمعنا بقرب عودته النهائية إلى مصر، ثم بوصوله بالفعل والاستقبال الحافل الذى استقبل به فى مطار القاهرة.
كان لابد إذن من أن أجلس لأستمع إليه بإنصات تام فى حديثه مع أحمد المسلمانى فى فيينا قبل مجيئه إلى القاهرة، ثم مع منى الشاذلى بعد وصوله.
الموضوع مهم جدا لأنه يتعلق بنظام الحكم فى مصر. فالدكتور البرادعى وجه جديد تماما على السياسة المصرية، ومن نوع لم نر مثله فى منصب رئاسة الجمهورية منذ قيام ثورة يوليو فى 1952، أى منذ أكثر من نصف قرن. ليس فقط لأنه مدنى والباقون عسكريون، ولكن لأن احتمال وصوله إلى هذا المنصب يرجع إلى اختيار شعبى ولا يفرض على الناس من أعلى.
أضف إلى ذلك أن فكرة اعتلائه للمنصب، تطرح فى وجه ترتيبات تجرى على قدم وساق، منذ عدة سنوات لتوريث رئاسة الجمهورية من الأب إلى الابن، وهو ترتيب ممجوج وسيئ جدا لأسباب كثيرة ليس الآن مجال الخوض فيها من جديد.
أثار هذا فى نفسى بعض الأفكار والمشاعر المتضاربة، رأيت أن أشرك القارئ معى فيها. فالدكتور البرادعى رجل محترم جدا، وله تاريخ ناصع، سواء فى خدمة بلده أو فى أدائه الوظيفى، أو فى النزاهة الشخصية والوقوف بشجاعة ضد إدارة أقوى دولة فى العالم، مرتين، مرة وهى بصدد البحث عن أعذار للهجوم على العراق، ومرة لتهديدها بالهجوم على إيران. فلما رأيت د. البرادعى واستمعت لحديثه مع أحمد المسلمانى ومنى الشاذلى، لم أجد منه ما يقلل من احترامى وتقديرى له.
فها هو رجل متزن وعاقل، لا شك فى حبه لبلده واهتمامه بأمره، مطلع إطلاعا كافيا على ما يجرى فى العالم، ويعرف أهم مشكلات مصر الحقيقية. صحيح أنى لم أشعر بالارتياح الكامل لإجابته عن سؤال من أسئلة المسلمانى يتعلق بإسرائيل، وإلى أى مدى يعتبر إسرائيل مسئولة عما تعانيه مصر من مشكلات، إذ لاحظت أنه استخدم تعبير «المشكلة الفلسطينية» بدلا من إسرائيل، وإفاضته فى الكلام عن أخطاء العرب فى معالجتهم لهذه القضية بدلا من أن يفيض فى ذكر ما ارتكبته إسرائيل من جرائم ضد العرب. ولكنى لم أحاول أن استنتج شيئا من هذه الملاحظة، وقلت لنفسى إن الأمر يحتاج إلى ملاحظات أخرى.
المشكلة فى موضوع د. البرادعى ليست فى هذا فالرجل صالح تماما لتولى الرئاسة. وسأفرح بشدة كما سيفرح ملايين غيرى لو رأيناه يعتلى هذا المنصب، لكل الصفات الطيبة التى ذكرتها من قبل، وبصرف النظر عن حصوله على جائزة نوبل «إذ هل يشترط حقا فى رئيس الجمهورية حصوله على جائزة نوبل؟ ألا يكفى أن يكون الرئيس على درجة كافية من الذكاء والنشاط، وقدر عال من النزاهة، وأن يثبت من تصرفاته وكلامه حبا حقيقيا لبلاده؟، وقد أثبت الدكتور البرادعى تمتعه بكل هذه الصفات».
المشكلة هى أن تصرفات الكثيرين من الناس ومن المعلقين فى وسائل الإعلام، تبرز الدكتور البرادعى وكأنه البديل الوحيد الممكن عما يجرى من ترتيبات لتمرير التوريث، ويظهر فرحهم وابتهاجهم باحتمال ترشحه للرئاسة، وكأنه الوسيلة الوحيدة الممكنة لإسقاط مخطط التوريث. ويترتب على هذا أنه، لو حدث لا قدر الله وأصاب د. البرادعى أى مكروه، أو انسحب لأى سبب من الترشح للرئاسة، كان علينا أن نقبل البديل الآخر صاغرين، وهو التوريث.
بعبارة أخرى، إن مظاهر الفرح الشديد بظهور د. البرادعى، وقبوله الترشح للرئاسة تبدو «أو هكذا على الأقل أفسرها أنا» وكأن الناس تريد أن تقول لرجال السلطة فى مصر، وأن يقول بعضهم لبعض: «ها قد وجدنا رجلا ممتازا يصلح للرئاسة أكثر من نجل الرئيس، وقد قبل لحسن الحظ أن يخوض هذه المنافسة». إن الأمر يجب ألا يكون كذلك على الإطلاق. فرفضنا للتوريث لم يكن قط مبنيا على صعوبة العثور على شخص ممتاز ينافس ابن الرئيس. فالمصريون الممتازون، والصالحون لتولى الرئاسة، والمستعدون فوق هذا للترشح للرئاسة لو سألوا عن ذلك، كثيرون جدا، بل لا أتردد فى أن أقول إن عددهم يقدر بمئات الألوف.
لماذا إذن نحول القضية إلى تهليل للعثور على شخص واحد صالح لهذا المنصب، وكأننا نقول للممسكين بالسلطة» ها قد وجدنا شخصا آخر أفضل! بينما الذى يجب أن نقوله فى الحقيقة هو إن طريقتكم فى إدارة الحكم سيئة جدا، وليس من حقكم أن تقولوا لنا من هو رئيس الجمهورية القادم، بل سنختاره نحن بأنفسنا من بين الصالحين لهذا المنصب، وهم كثيرون جدا، وأكثر بكثير مما تتصورون.
ثم عدت وقلت لنفسى: «ولكن، أليس هناك نفعة مؤكدة فى تقديم شخص من لحم ودم، وصالح تماما للرئاسة، وتقديم الدعم له لكى يفهم الشخص الآخر، إننا نفضل غيره عليه؟ أليس هذا أفضل من المناداة بمبدأ مجرد، هو فتح أبواب الترشح للجميع، دون تحديد شخص معين بالذات؟ بل ها هو البرادعى يقدم مطالبه «وهى أيضا مطالبنا» بتعديل الدستور لإلغاء المواد الموضوعة خصيصا لصالح نجل الرئيس، وها هو يطالب باتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق نزاهة الانتخابات، والمراقبة المحايدة لما يحدث فيها. أليس فى هذا أيضا فرصة جيدة للفوز بما نريد؟!
نعم، نعم. ولهذا أشعر بالفرح بما يأتينى من أخبار عن الدكتور البرادعى. ولكنى لا أخفى أنى أضع يدى على قلبى خوفا من أن يستغل أصحاب السلطة هذه الخطوة من جانب د.البرادعى ومن جانبنا، للزعم بأن نجل الرئيس سوف يدخل مباراة نظيفة، فإذا نجح بسبب ما يقومون به من أعمال شيطانية، يقولون بانتصار «ما الذى تريدونه الآن أكثر مما فعلناه لكم؟ ألم نسمح لمرشحكم بدخول المبارزة؟ فماذا نفعل لكم إذا كان الناس قد فضلوا عليه نجل الرئيس؟».
أعود فأقول لنفسى: «إن المطلب الحقيقى يجب أن يكون، ليس مجرد السماح لشخص معين بدخول الانتخابات، أى مجرد إطلاق شخص واحد من السجن ليمارس حريته، بل المطلب الحقيقى هو أن يطلق سراحنا جميعا، فنخرج إلى الهواء الطلق، ونمارس التنفس الطبيعى لعدة سنوات، مما يسمح بظهور المئات أو الآلاف من أصحاب المواهب المحرومين من التعبير عن أنفسهم. وحينئذ، وحينئذ فقط، يصبح الكلام عن انتخابات حرة واختيار صحيح.