جدليّة التّفتيت والجمع فى بلاد العرب
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الأربعاء 26 فبراير 2020 - 10:15 م
بتوقيت القاهرة
فى الآونة الأخيرة صعدت أصوات البعض من المنادين بأن يقصر الفرد العربى اهتماماته على الدولة القطرية الوطنية التى يعيش فيها، وأن يبعد نفسه عن الاهتمام الملتزم، بكل تبعاته وتعقيداته، بما يجرى فى وطنه العربى الكبير. وبالطبع فإن تلك الأصوات، بقصد أو بدون قصد، تتناغم وتتعاضد مع أهداف تاريخية وحالية لبعض الدوائر الاستعمارية الغربية والصهيونية، والتى تسعى لإخراج الهوية العروبية الموحّدة للأمة، ومن ثمّ المشروع الوحدوى العربى، من ذاكرة وعقل ووجدان كل إنسان عربى، وعلى الأخص شابات وشباب الأمة.
إن هذه الأصوات تردّد ليل نهار بأن لكل قطر عربى خصوصياته التاريخية والسلوكية واللغوية التى تميّزه عن بقية الأقطار العربية، وأن وضع التقسيم الحالى للوطن العربى إلى دول مستقلة، بذاتية خاصة، أصبح جزءا من الواقع العربى لا يمكن تبديله، وبالتالى من الحصافة قبوله، وأنه نتيجة لذلك أصبح لكل قطر مصالحه والتزاماته وارتباطاته وآماله وأنظمته السياسية الخاصة به.
وبالطبع ما كان لتلك الأصوات أن تعلو لولا الوضع المأساوى التمزيقى الحالى الذى تعيشه أجزاء كبيرة من الوطن العربى، ولولا الصعود الكبير للنفوذين الصهيونى والأمريكى فى بعض الأقطار العربية.
لكن ما لا تعيه تلك الأصوات النّشاز الغاضبة، بل وما تحاول أن تخفيه عن مدارك ووعى الإنسان العربى العادى، هو أن فقدان السياسة العربية المشتركة الجامعة، وغياب الالتزامات القومية التضامنية فيما بين الأقطار العربية قد أدّى إلى انكشاف وضعف وعدم كفاءة السياسة القطرية المستقلة. وها نحن اليوم نرى كيف أصبحت السياسات القطرية، المبتعدة عن محيطها العربى القومى، لعبة فى يد قوى استعمارية ــ صهيونية متآمرة وقوى إقليمية طامعة.
والنتيجة أن العديد من الأقطار العربية تغرق، وتكاد تموت، من جراء الهجمات الخارجية الممنهجة عليها، خصوصا بعد أن وجدت تلك الجهات الخارجية فى منظومات الجهاد الإسلامى التكفيرية العنفية المجنونة أدوات جاهزة لتنفيذ كل مخطّطاتها تجاه كل قطر على حدة... ومع الأسف فإذ تغرق تلك الأقطار فإنها لا تجديد عربيًا واحدًا، فرديًا أو مشتركًا، يمتدُّ لإنقاذها.
ولو أن تلك الأصوات المنكفئة قطريا على نفسها والدّاعية إلى الخلاص القطرى، أمعنت النظر، بهدوء ورزانة، فى الصورة الحالية للوطن العربى كلّه، لأدركت كم أن غياب القومى قد أنهك وأضّر وأمات القطرى الوطنى فى كل الساحات.
دعنا هنا نستحضر لانتباه تلك الأصوات ما كتبه فى عام 1992، فى جريدة واشنطن بوست، أحد كبار الصحفيين الأمريكيين، جيم هو غلند، قائلا: «كان تفسيخ السياسات العربية وتجزأتها إلى نتف (Atomizing Arab Politics) هدفا أساسيا من أهداف كبار مخطّطى وزارة الخارجية الأمريكية لعملية عاصفة الصحراء».
بالنسبة لأمريكا، وبالطبع الكيان الصهيونى، يجب ألا توجد قضايا عربية سياسية مشتركة، وأن تحلّ محلّ ذلك قضايا سياسية تحت مسمّيات مصرية ومغربية وكويتية وسورية.. إلخ..
دعنا أيضا نستحضر لهذه الأصوات تاريخ محاربة الاستعمار الغربى فى طول وعرض بلاد العرب. هل كان باستطاعة الكثير من الأقطار العربية المستعمرة نيل استقلالها لو لم تحصل حركاتها الوطنية على أنواع لا تحصى من الدّعم والمساندة من شقيقاتها الأقطار العربية الأخرى؟
وهذا ينطبق على الأخص على أقطار الخليج العربى فى مقاومتها للاستعمار البريطانى، وهى مع الأسف الأقطار التى تعلو فى بعضها تلك الأصوات النّشاز، المعارضة لكل توجّه قومى تضامنى وحدوى فى حلّ قضاياها وقضايا غيرها.
لا يقتصر الأمر على حقل السياسة، فحقل الاقتصاد والتنمية يطاله هو الآخر رذاذ ذلك التوجّه العجيب. فما إن يتكلم أحد عن أهمية التنسيق والتضامن والتوحيد العربى فى حقل التنمية الإنسانية والاقتصاد الإنتاجى والانتقال إلى عصر المعرفة والتكنولوجيا حتى تنبرى تلك الأصوات بوصف تلك المحاولات بالأحلام الطفولية المستندة على أوهام أيديولوجية. وينسى هؤلاء أن محاولات التنمية الإنسانية الشاملة قد فشلت فشلا ذريعا فى كل قطر عربى حاول أن يقوم بها لوحده وضمن إمكانياته.
وهذا موضوع كبير كتبت عنه الكتب التى خرجت جميعها بالاستنتاج المنطقى بأهمية خطوات التنسيق والتعاون والتوحيد العربى فى حقول الاقتصاد والمعرفة والتكنولوجيا وغيرها.
ومرة أخرى ترفع تلك الأصوات فى وجوهنا مقولة إن هذا العصر هو عصر عولمة وتتجاهل ما فعلته العولمة النيوليبرالية، المتبنّاة من قبل كل الأقطار العربية، بالمجتمعات العربية من عرقلة الانتقال من اقتصاد ريعى إلى اقتصاد انتاجى، ومن فقدان كل استقلال فى القرارات الاقتصادية وتحكم من قبل المؤسسات المالية العولمية، ومن ازدياد فى الفقر وإتساع فى الهوة بين الفقراء والأغنياء، ومن تراجع مذهل فى حجم الطبقة الوسطى، ومن ازدياد فى معدّلات البطالة، إلخ.. إلخ.
من حقنا أن نسأل: ألا يستطيع مفكرو ومثقفو وسياسيو هذه الأمة أن يتجنّبوا ممارسة التطرف والحدّيّة فى كل ما يطرحونه من أفكار ومواقف، ويتعاموا مع قضاياهم ومستقبلهم بهدوء وموضوعية ورزانة، تبعدهم عن الغوغائية المبتذلة فى بعض ما يقولونه أو يكتبونه؟.