لماذا تنفجر تنظيماتنا من الداخل؟
معتز بالله عبد الفتاح
آخر تحديث:
الجمعة 26 مارس 2010 - 10:00 م
بتوقيت القاهرة
هل هي مصادفة أن يزيد انقسام العرب بهذه الدرجة على أنفسهم؟ هل هي مصادفة أن يحدث هذا الانقسام بين فتح وحماس ويهود العالم وحلفاؤهم يزدادون وحدة في مواجهتنا؟
هل هي مصادفة أن يلتقي نتنياهو مع هيلاري كلينتون وباراك أوباما رغما عن الخلافات الظاهرية بين الفريقين في حين أن منطقتنا العربية تشهد فراغا هائلا بسبب رفض بعض القيادات الكبرى للالتقاء والتنسيق منذ حرب لبنان في عام 2006 في حين أن القدس تقتطع قطعة قطعة وكأننا نعيش زمن رؤساء الطوائف مرة أخرى؟
وحتى على المستوى المحلي، هل هي مصادفة أن تنقسم حركة كفاية في مصر على نفسها؟ هل هي مصادفة أن يتم إطلاق النار من بعض الوفديين ضد بعض الوفديين في مقر حزب الوفد الليبرالي؟ حتى انتخابات الإخوان كشفت ما لم يكن تحب الجماعة أن ينكشف عنها للرأي العام من خلافات وصراعات؟
وهل هي مصادفة أن يعاني كل حزب، باستثناء الحزب الوطني، من حالة من الانقسام الداخلي تتناقلها الصحف وتتداولها المحاكم؟ حتى أتباع الطرق الصوفية، المفترض فيهم أنهم أهل الزهد والترفع عن غايات الدنيا، اختلطت عليهم قداسة الدين بجاه مناصب الدنيا!
ويزداد الكتاب فصلا جديدا بسبب ما حدث في إسلام أون لاين كمنظمة أعرف الكثيرين من أهل الفضل والعلم من العاملين بها. ومن أسف أن الجهة المالكة للموقع في قطر لم تتمثل قيم هذا الدين العظيم الذين يعملون لخدمته أثناء إدارتهم لخلافاتهم مع أشقائهم في مصر؛ فلا يمكن لعاقل أن يخدم الإسلام بطريقة غير إسلامية؛ فنبل الغاية كان ينبغي أن ينعكس على نبل الوسيلة.
إذن من الممكن أن نتفق على وجود هذا الخلل على مستويات متنوعة من الفشل في العمل الجماعي، وهي معضلة اعتنى بها علماء كثيرون وكتبت فيها مؤلفات متعددة في علوم الاجتماع والسياسة وإدارة الأعمال لخطورتها على مستقبل المجتمع والدولة والشركات.
***
يمكن من حيث المبدأ رصد ثلاثة مداخل مهمة لفهم ماذا يحدث لنا:
1- مدخل نفسي سيكولوجي: ينظر لفشل العمل الجماعي بعين العوار الوارد على بعض الأشخاص الذين يعانون فقرا في الإحساس بالأمان الذاتي والرغبة الشديدة في الزعامة والسيطرة، واعتبار أن جلوسهم على مواقع السلطة والسيطرة على مفاتيح التنظيمات التي يشغلونها يشبع غريزة تحقيق الذات، وهي غريزة لا تقل في سطوتها عن غريزة الطعام والشراب كما ذهب (Harold Lasswell) الذي رصد في مؤلفات عشرات الأمثلة لأشخاص كانوا بلا حيثية أو مكانة اجتماعية فكان قرارهم بأن يصلوا إلى موقع الزعامة والسيطرة وإلا فسيعملون على تدمير التنظيم من داخله بمنطقنا الشعبي القائل "إما فيها أو أخفيها".
وهناك ثلاثة مظاهر لشعور البعض بعدم الأمان الذاتي والرغبة في تدمير أي عمل جماعي لا يكونون على قمته:
أولا: يرفض هؤلاء أن يُمدح شخصٌ لانجاز حققه لأنهم يعتبرون أن نجاح أي شخص أو تنظيم إهانة مباشرة لهم، لأنهم يعيشون بمنطق "الناجح الأوحد".
ثانيا: الرغبة في أن يكونوا في كل المناصب وكل اللجان وكل الوظائف في كل الوقت بل ويتفاخر بتعدد الألقاب والمناصب لما تشبعه في الشخص من نهم للسلطة والشعور بالقدرة على التحكم في مصائر الآخرين.
وثالثا: هناك الرفض الشديد لتفويض الآخرين في القيام بمهام يمكن أن يكون لها عائد لا يمكن أن ينسب للشخص الباحث عن السلطة والسيطرة؛ والسعي الشديد لتحميل الآخرين مسئولية أخطائه هو؛ فهو دائما يسعى لأن يكون النجاح منسوبا له ويكون الفشل منسوبا للآخرين. فلا يستقيل عن منصب تولاه نتيجة شعور ذاتي بالخطأ وإنما مدفوعا بقوة أكبر منه.
2- مدخل اجتماعي سوسيولوجي: تفكك تنظيماتنا الاجتماعية والسياسية من وجهة نظر علم الاجتماع يرتبط مباشرة بظاهرة التفكك الاجتماعي والتي ناقشها ابن خلدون حين تحدث عن "العصبية الاجتماعية" كمصدر للقوة والغلبة والتمكن.
وهو نفس المفهوم الذي تبناه إميل دور كايم حين ناقش نوعين من التماسك بين البشر في جماعات ومجتمعات:
التماسك التلقائي أو الفطري القائم على علاقات غير اختيارية مثل تماسك وتضامن أبناء الأسرة أو القبيلة الواحدة الذي يسيطر على المجتمعات التي لم تشهد تطورا كبيرا ولا تشعبا وتعقيدا لمنظومة المكانات الاجتماعية والوظائف والمهن والمؤسسات. والتماسك العضوي أو المؤسسي المبني على المصلحة المشتركة وتقاسم الأدوار (العضوي) وهو تماسك يتطور بتطور المجتمعات وتعدد مؤسساتها ومختلف مكوناتها حيث يجتمع الأفراد لا حول الروابط الدموية أو الجيرة فحسب، وإنما حول الإيديولوجيات (أحزاب، نقابات على سبيل المثال)، والاختصاصات، والمهن، والقضايا المتعددة التي تتكاثر بفعل التطور اللانهائي للمجتمعات العصرية.
والحقيقة أن أي مجتمع ناجح يجمع بالضرورة بين نوعي التماسك المشار إليهما. ومن هنا، مثلا، جاء التوجيه القرآني في أطول آية من آي القرآن الكريم و من آخر ما نزل من القرآن (الآية 282 من سورة البقرة) بكتابة الدين (أي عقود الديون والتجارة وغيرهما) بأدق تفاصيل ممكنة ومهما كانت ظروف الدائن والمدين وهي آية مفتاحية لأنها تعلم المسلمين توثيق عهودهم وعقودهم وعلاقاتهم ومداياناتهم بالكتابة والإشهاد وهو ما لا تستقيم بغيره حياة اجتماعية سليمة.
وهو نفس القرآن الكريم الذي حث المسلمين على التضامن الفطري والتلقائي من خلال حثه لنا ألا ننسى الفضل بيننا وتذكيرنا بأنه من تطوع خيرا فهو خيرٌ له، والعطف على الفقير والمسكين واليتيم وعابر السبيل وكل ذي حاجة.
المشكلة في مصر ومنطقتنا العربية أن التماسك التلقائي تراجع بشدة في حين أن التماسك العضوي أو المؤسسي لم يحل محله. فهناك تراجع كبير في رأس مالنا التلقائي القائم على القيم التقليدية حيث ينحسر احترام الكبير والعطف على الصغير ومعرفة حق العالم على المتعلم (أي صور التماسك التلقائي) وفي نفس الوقت لا نشهد زيادة في رأس مالنا المؤسسي حيث يتراجع احترام القانون وأخلاقيات المهنة وأصول العمل المؤسسي (سواء في الجامعة أو النقابة أو الحزب). فلا عدنا كما كنا في الماضي ولا صرنا إلى ما ذهب إليه أبناء الحضارات الأخرى.
3- مدخل سياسي أيديولوجي: غياب الأطر المؤسسية لتحديد من يحصل على ماذا متى وكيف ولماذا فينتهي الأمر بمغالبة ميكيافيلية بلا ضوابط مسبقة وإنما اقتلاع شخص لآخر أو شلة لأخرى. وهذه واحدة من فضائل دولة القانون سواء وجدت في نظم ديمقراطية أو غير ديمقراطية حيث توجد قواعد مؤسسية حاكمة للجميع تجعلنا مهما اختلفنا نعمل في إطار من القانون والبحث عن الحلول الوسط حتى لا تنفجر التنظيمات بما يعود بالسلب على الجميع فبدلا من تقاسم النجاح نتنافس في توزيع الفشل وإلقاء اللوم على الآخرين.
وهي مسألة لا يولد الإنسان بها وإنما هي تكتسب كمهارات القراءة والكتابة والحساب. ولهذا حرصت المجتمعات الأكثر تقدما على أن تدرب النشء فيها على هذه القيم منذ دخولهم المدرسة، فيتعلم التلاميذ في المدارس كيف يتخذون قراراتهم بالتشاور وتحديد البدائل والسعي للجمع بين البدائل المتعارضة في بدائل مستحدثة تجمع أكثر من بديل في صورة حلول وسط ثم التصويت واحترام قرار الأغلبية بل ومعاقبة من يخرج على هذه التقاليد الديمقراطية.
هنا يتدرب التلاميذ على كيفية الحياة في ظل تنظيمات لا يمكن لهم أن يسيطروا عليها وإنما عليهم أن يتعايشوا في ظلها. وقطعا هذه تقاليد ليست مصرية أو عربية، إلا فيما ندر.
ورغما عن أن ظاهرة انفجار التنظيمات من الداخل تعود إلى ما قبل الثورة، لكن الأمور اتجهت نحو الأسوأ في ظل التقاليد التي تربى فيها مواطنو وسياسيو مصر ما بعد الثورة وما رسخته من قيم التزلف للسلطة ومداهنة القائمين على شئونها ونعت المخالفين بصفات الرجعية والتخلف واعتبار مخالفتهم في الرأي مساسا بكرامتهم. وهو ما نلمسه في سياسيين يدعون للديمقراطية وهم أمثلة صارخة في الاستبداد على المستوى الأسري والمهني والسياسي. إن مستقبلنا يمكن أن نقرأه من حاضرنا كما أن حاضرنا يمكن فهمه من ماضينا.
***
هذه خواطر حضرتني وأنا أقرأ عن أخبار مصر أثناء حضوري مؤتمر في الولايات المتحدة ينظمه مركز القيم الأمريكية The Institute of American Values يناقش القيم والأفكار الكبرى التي تحكم المجتمعين الأمريكي والعربي والفجوة الثقافية التي تعيشها هذه المجتمعات. وكم احترمت القائمين على هذا المركز لأنهم كتيبة في صدر مجتمعهم يرصدون مشاكله ويجتهدون في البحث عن إجابات علمية لها. ولا أعرف إن كنا نهتم في مجتمعاتنا بأن تكون لنا إسهامات بنفس القدر من الجدية التي أراها في مثل هذه المراكز البحثية.
لا أعرف هل وصلنا إلى القاع بعد أم لا، لكن "لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا".