البَسوس
تميم البرغوثى
آخر تحديث:
الثلاثاء 26 مارس 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
تخيل رجلاً حاملاً كيساً مليئاً بالحروف، يرجها كضارب الودع والرمل، ثم يرميها على الأرض، وكيفما تشكلت الحروف قرأها، فإن أعجبه ما قرأ وإلا فعلها ثانية. أبدل الحروف بالصور، فالصور، كالحروف، إن اصطفت إحداها بجانب الأخرى تشكلت منها جمل مفيدة أو ضارة، لكنها ذات معنى ومغزى فى الحالين. تخيل الآن هذه الصور: بغداد ليلاً، صوت صافرات الإنذار مسموع على شاشات الفضائيات التى تشاهدها أنت من خلالها، ثم أول انفجار فى الحرب، كتلة من اللهب تعلو منازل الناس وتنعكس صورتها المتضخمة أبداً مثل مردة القماقم وجن القصص على ماء دجلة، تخيل نفسك، بعد عشر سنوات من هذه المذبحة الكبرى، كأنك وحدك تذكرها، وترى الناس حولك، كأنهم قد نسوها تماماً. تخيل صورة أخرى: شابان فلسطينيان يهربان حليباً وخبزاً وزيتاً ووقوداً فى نفق ضيق، يعملان أجيرين لدى من يملك النفق، يقرر ضابط ما فى القاهرة أن يغرق النفق بماء المجارى، يموت الشابان وتطفو جثتاهما مع ما كانا يحملان من رزق الناس، على أن الضابط الذى أغرقهما وأبكى أميهما عليهما كان هو من أجبرهما على استخدام الأنفاق أصلاً لأنه أغلق فى وجههما معبر رفح ولم يسمح لرزقهما أن يمر منه، وأمرهما كلما أتيا برزق لأهلهما أن يسلما الرزق لإسرائيل على معبر كرم أبو سالم ثم أن ينتظرا إذن إسرائيل فى إدخاله إلى الناس. تخيل نفسك، بعد أسبوع من هذه الواقعة، كأنك وحدك تذكرها، والناس حولك، كأنهم نسوها تماماً أو ذكروها ولم يبالوا بها، أو ذكرها بعضهم وأقر الضابط على ما فعل ويفعل. تخيل كومة من الأولاد تحت كومة من الركام، اللون واحد، لو دققت النظر رأيت يداً أو ما يشبه اليد، طرف ثوب أو ما يشبهه، وجهاً آدمياً أو ما يذكر به، كأن الأجساد وركام المنزل المقصوف كتلة من الغيوم تشبه الكائنات ولا تشبهها، واجتهد أن تتذكر إن كان هذا المشهد من الشام أو من لبنان أو من العراق أو من فلسطين. تخيل فتى فقيراً فى ميدان التحرير بالقاهرة، فى الثالثة عشرة من عمره أو أقل، يدفع عربة البطاطا، يسأله أحد المارة:» بتزق العربية لوحدك ليه؟ مش تقيلة عليك؟» فيجيبه: « جم بلطجية ضربونى وأخدوا فلوسى، فقلت أروح على الناحية التانية عشان هناك فى عساكر فما يضربونيش». ويدفع عربته بشق النفس حتى يصل إلى قرب السفارة الأمريكية فتقتله القوة المكلفة بحراسة السفارة برصاصتين إحداهما فى القلب، وحين تعتذر، تزعم أنها، بقتله، كانت تقصد أن تمازحه.
•••
كف عن التخيل، وافتح عينيك، وأنظر أمامك، هنا فى بلدك، وانظر إلى رفاقك من الثوار، ملح الأرض الذين تنعقد عليهم الآمال أن يصلحوا هذا كله، أن يأخذوا حق الولد القتيل من قاتله، أن يأخذوا إخوته إلى المدارس وأمه إلى المستشفى واسمه إلى الخلود، وأن يجعلوا من حرس السفارة فرقة سيرك ليتعلموا معنى المزاح، فيتوجوهم بأكواز البطاطا ويلونوا وجوههم بدم قتيلهم، ثم يأمروهم أن يتقافزوا إلى أن يبتسم القتيل المسجَّى لهم أو يموتوا وهم يتقافزون. انظر إلى رفاقك المعقود عليهم الأمل أن يقبضوا على الضابط ويحكموا عليه أن يعيش فى نفق محاط بمياه المجارى حتى يشيب، وأن يأتى بزوجته وأولاده فيعيشوا فيه معه. انظر إلى رفاقك المعقود عليهم الأمل أن يضمنوا للشام والعراق ولبنان، ولا ضامن غيرهم، مستحيلاتها الثلاثة، الحرية للأفراد والوحدة بين الطوائف والمقاومة لإسرائيل والولايات المتحدة. أنظر إليهم جيداً، هذا الأسبوع، هذا الأسبوع تحديداً، بعد مرور عشر سنوات على حرب العراق، وسبع على حرب لبنان وخمس على حرب غزة وسنتين على ثورتهم، وقل لى ماذا ترى.
لن يعجبك ما سترى، ستراهم مشغولين عن هذا كله بسب بعضهم أمهات بعض. لكل محترم منهم حليف سافل، كنت كتبتَ هذه العبارة فى وصف الشام ولبنان، ولم تكن تظنها تسرى على مصر فسَرَت عليها. جماعة الإخوان المسلمين، والتى لقيت من الشرطة ما لقيت من ظلم وعسف على مدى عقود، يزعم أبرز أعضائها أن الشرطة كانت فى القلب من الثورة، والثوار من معارضى جماعة الإخوان المسلمين يسمحون لقضاة ووزراء وإعلاميين من أنصار حسنى مبارك أن يكونوا فى القلب منهم، وتسرى بينهم دعوة لجمع التوقيعات للجيش مطالبة إياه باستلام السلطة مرة أخرى بعد أن هتفوا بسقوطه مدة سنتين. سترى «الثوار»، يسحلون خصومهم فى الشوارع، ويعذبون أسراهم، ثم يفخرون بذلك، ومن لم يفعل ذلك منهم، أقره، ومن لم يقرر به، عجز عن منعه. على أن ذلك العاجز، أو المعتذر بالعجز، حين دعا الناس لمحاصرة مقر خصمه يوم الجمعة الماضى ثأراً للطمة امرأة، كان يعلم أن الأمر سيصل إلى الدم، وكان يعلم أنه سيعجز عن منع أنصاره من سفك الدم، لأنه لا تنظيم له، ولا أمر له ولا نهى على من معه. كان يعلم، لا بد أنه كان يعلم، فلماذا ذهب؟ ذهب لأنه يائس؟ لأنه غاضب؟ ذهب استعراضاً للقوة؟ ليقول لخصمه أنه هو أيضاً قادر على القبح؟ أى فائدة سياسية مما فعل؟ ولا حجة فى قوله إن خصمه ارتكب السحل والتعذيب من قبل، إن لم تكن أكرم خصومة وأنبل قتالاً من خصمك فإلام دعوتك وفيم دعواك؟
•••
لقد بدأت هذه الثورات بلطمة شرطية على خد فتى كريم اسمه محمد البوعزيزى، أرأيتم لو كان البوعزيزى سحلها أو عذبها أو لو كان أهله فعلوا بها ذلك، هل كانت تقوم فى بلادنا ثورة؟ ألم تكن مظلوميته أقوى أسلحته، هدم بها الشرطية وجهازها ووزيرها ورئيسها ورؤساء ثلاث دول مجاورة أخرى؟ بينما أنتم تدخلون معارك المنتصر فيها يخرج أضعف من المهزوم، وتتبسم البسوس منكم.
ثم ما هذا الافتتان، يا رفاقنا، بالمسبات والشتائم بينكم، وما هذا الولع بمسبة الأمهات تحديداً، لقد أصبحتم اليوم حلفاء من عاديتموهم أمس، وقد تصبحون غداً حلفاء من تعادونهم اليوم، فرفقاً بأمهاتكم.
يا أهل مصر، يا مسلميها ومسيحييها، يا إسلامييها وقومييها وشيوعييها، إنه لا أمل لهذه البلاد، ولا أعنى مصر وحدها، إلا بكم أنتم. إن لم تتحرر مصر فكل المنطقة مقبلة على بلاء عظيم، بل إن إقبالها على البلاء وإذكاء نار الحروب الأهلية فيها، كان فى جزء منه احتواء لثورتكم ورد فعل أمريكى عليها. الساسة المسنون كانوا أجبن من أن يقودوا الشارع، والشباب افتقدوا التواضع اللازم كى يختاروا قائداً منهم، وانفرط الإجماع الذى كان يغنى الناس عن القيادة. إن هذا الخلل فى طرح بديل سياسى ثورى قادر على استلام السلطة، ترك البلد بين تنظيم قررت قيادته أن لا تكون ثورية إطلاقاً، وبين مؤسسة عسكرية وأمنية تدير احتلالاً أمريكياً رأسمالياً قمعياً لمصر منذ أربعين سنة. إن السحل والتعذيب وسب الأمهات والرسم على الحيطان والثأر لكل بسوس وناقتها لن يعوض هذا الضعف الذى كنا جميعاً مسؤولين عنه.
الآن، أكثر من أى وقت مضى، أصبح لا بد من التنظيم الثورى، وأصبح لا بد من قيادة ثورية، ولا يمكن التسامح مع هذه الجرائم فى صفوف الثورة، إن قتل عثمان أوصل الخلافة ليزيد، فطوبى لحكيم عارض عثمان وعارض قتله.
إستشارى بالأمم المتحدة