كوم جعيف

عاطف معتمد
عاطف معتمد

آخر تحديث: الثلاثاء 26 مارس 2024 - 7:15 م بتوقيت القاهرة

قصدت نوقراطيس ملقيا آخر نظرة على خريطة رسمها بعض العلماء قبل ألفى سنة عن دلتا النيل. على هذه الخريطة تبدو البلدة التى تحمل اليوم اسم «كوم جعيف» ميناء نهريًا ومرفأ لتبادل التجارة مع دول العالم. إن كنت مؤرخًا أو عالم آثار أو مهتمًا بما كانت عليه هذه الأرض وشعبها عبر الزمن فلا تجزع؛ الحاضر لا يشبه الماضى ولا يدل عليه، الحاضر يبعث على الأسى!
مشهد الأرض، ريفى بسيط، ليس فيه عمارة يونانية ولا تماثيل ولا معابد، بل لن تجد مجرى نهر النيل الذى مر هنا، ويحمل اسم الفرع الكانوبى الذى اندثر واختفى عبر الزمن. تقع البلدة فى قلب الأرض الزراعية بعيدة عن النيل (فرع رشيد) بنحو 16كم، ويفصلها عن رمال الصحراء الغربية مسافة تربو على 60 كم وعن بحر الإسكندرية بنحو 70كم.
هذه الأرقام هى أول عدم اتفاق مع الماضى، فقبل أكثر من 2000 سنة كانت «نوقراطيس» تقع على النيل مباشرة، وتطل فى ذات الوقت على حافة الصحراء، يسكنها تجار ومحاربون مهاجرون من الأناضول، «شعوب البحر» أبناء الحضارة اليونانية.
ألقيت مع خطواتى الأولى فى البلدة الصغيرة تحية السلام على شيوخ البلدة الذين خرجوا للاسترخاء على مصاطب بيوتهم تمتعًا بنسيم العصارى، لمحت من دون قصد بعض فتيات القرية الجميلات يلقين نظرة من النوافذ على ذلك الوافد الغريب. وقبل أن استشعر ونس المكان سرعان ما استوقفنى أصحاب ورشة صغيرة للنجارة معترضين طريقى بالطريقة الشهيرة التى ظاهرها الترحيب وباطنها التشكك، فبادر أفصحهم لسانًا يسأل بصوت حازم لا يخلو من ترحيب «اتفضل اشرب شاى! بتدور على حاجة؟! جاى لحد هنا فى البلد تحب ندلك عليه؟!».
علمنى طول السفر كيف أسوق الطمأنينة إلى أهل الريف وبدو الصحراء، ولم تخب طريقتى هنا فى كوم جعيف، فأوفد معى أهل القرية ممن تجمعوا حول الورشة، الشاب الرشيق «علوان» ليطوف بى على المواقع الأثرية التى يعرفونها.
علوان شاب فى السابعة عشرة من عمره قادنى بين الحقول والجسور، بينما يحاول إنهاء رسائل متبادلة مع إنسان ما يجلب له الابتسامة على الطرف الآخر من هاتفه المحمول. بدا علوان مشغولًا غير سعيد بمرافقتى حتى نادى عليه من الضفة الأخرى للترعة رفيق له يداعبه بالقول، ويغمز قاصدًا إياى: «إنت يا ولا يا علوان.. لو لقيتوا آثار أنا معاكم بالنص».
يمكنك أن تعتبر جعيف إسكندرية زمانها، فحين كانت ميناء يسكنه اليونانيون على النيل يشرف على الصحراء، وتصل تجارته عبر النهر إلى البحر لم يكن الاسكندر الأكبر قد ولد بعد. ستظل هذه البلدة لأكثر من قرنين منذ القرن السادس قبل الميلاد، الميناء التجارى الأهم فى دلتا النيل قبل أن يظهر اسم الإسكندر ويأتى مصر، ليؤسس مدينة جديدة محل بلدة مصرية كانت قائمة بالفعل اسمها «راقودة» أقامها المصريون القدماء لمواجهة غزوات القراصنة اليونانيين على البلاد المصرية فى البحر المتوسط. قبل أن تظهر للوجود الإسكندرية كانت نوقراطيس تجمع سلع النيل والصحراء من حاصلات ونبيذ وزيوت وعبيد.
علوان لم يرد على دعابة رفيقه بشأن اقتسام اللقى الأثرية فسألته «هل تعثرون على آثار هنا حقًا؟ وما هى القطع الأثرية التى شاهدتها بنفسك؟!» ضحك الفتى لأول مرة، قائلًا: «كله كلام.. الآثار خدوها من البلد من زماااان.. ما عدش حاجة».
وقبل أن أسأله سؤالًا جديدًا عاجلنى بسؤاله: «إلا صحيح الآثار اللى أخدوها من هنا كانت آثار فرعونية.. ولو هى فرعونية إنت ليه بتقول فى كل كلامك إنك جاى تشوف الآثار اليونانية؟!» كنا نعبر من جسر إلى جسر متجنبين دهس أعواد السمسم، فقلت له على غير ترتيب: لعلك درست بعضًا من التاريخ فى المدرسة، وتعرف أن الظروف الداخلية من الصراع السياسى على عرش مصر كانت تدفع بالحكام إلى اتباع تحالفات غير متوقعة، وفى فترة من انهيار الدولة المصرية، بسبب تهديد الغزو الفارسى والتناحر على العرش فى الداخل استعان أحدهم واسمه بسماتيك الأول بمقاتلين مرتزقة وافدين من اليونان.
قاطعنى علوان مستنكرًا «مرتزقة؟!» قلت: «ممكن تسميههم مقاتلين بأجر أو بمقابل»، ثم واصلت حديثى، بينما نستهدف السير إلى البحيرة الكبرى التى تخضع لهيئة الآثار. وعلى ما يبدو يا علوان كان اللجوء إلى المقاتلين الغرباء سابق فى مصر بقرون طويلة على تجربة المماليك. عادة ما يكون الاستعانة بمحاربين مرتزقة وسيلة لتجاوز صراعات وتحزبات داخلية، فالغرباء دومًا ما يحاربون من أجل الاسترزاق لا من أجل «وطنهم» فمصر بالنسبة لهم ساحة تربح وثراء.
عاد علوان يسأل: وما الذى جاء بهم إلى قريتنا هنا بعد الحرب؟!
وفقًا لرواية هيرودوت التى يشوبها بعض التصديق وقدر من الشكوك يا علوان فإن بسماتيك بعد أن تحقق له النصر بمساعدة المحاربين اليونانيين كافئهم على صنيعهم بأن منحهم أرضًا يعيشون فيها وتكون لهم مركزًا للتجارة مع بلادهم عبر المتوسط. ولأنه يريد فى نفس الوقت أن تبقى هذه القوات على مقربة من عيونه وتحت سيطرته فقد اختار أرض بلدتكم هذه، الواقعة غير بعيد عن عاصمة مصر ومقر حكمه آنذاك، ثم سألته «تسمع عن صا الحجر»، فأجاب: بنعم. فأكملت لعلوان بعض أقاصيص عن «سايس» أو «صا» التى ينتسب إليها آخر عهد من أمجاد مصر القديمة والمعروف بالعهد «الصاوى».
تاه منى علوان! فعاد إلى هاتفه المحمول، وقال على غير إكتراث «ها قد وصلنا إلى كوم الحديد» الذى تسأل عنه. نظرت إلى الموقع الأثرى الشهير وأسكتنى المشهد عن الكلام، كانت الصورة على غير ما توقعت. لم يبقَ فى كوم جعيف سوى الطين وبعض أكوام مهملة من تراب المدينة التاريخية «نوقراطيس» التى وقفت هنا قبل نحو 2500 سنة.
هذه المدينة من أوائل ما قام به عالم المصريات الشهير فلندرز بيترى بمصر فى نهاية القرن التاسع عشر من تنقيب ومسح أثرى حينما سقطت مصر تحت الاحتلال البريطانى. وبشهادة المؤرخين حول العالم كانت أعمال بيترى تقوم على أساليب تنقيب ذات أثر تدميرى فى كوم جعيف نتيجة السرعة والرغب فى نقل أكبر عدد ممكن من الآثار فضلا عن توظيفه عدد كبير من الفلاحين المصريين بأجر زهيد يعملون بشكل مكثف فى الحفر والتنقيب دون أية خبرات أو وعى بالعمل وقيمة المكتشفات.
تسببت أعمال بيترى خلال حفره العميق بحثا عن كنوز المدينة التاريخية فى تكوين حفرة ضخمة صارت بركة عميقة للمياه ما زالت إلى الآن هى أهم معالم البلدة !

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved