شجون سورية.. كمان وكمان
محمد إدريس
آخر تحديث:
الأربعاء 26 مارس 2025 - 6:55 م
بتوقيت القاهرة
دمشق روح وجنات وريحان.. كما وصفها أمير الشعراء، تُرى ماذا كانت تجود به قريحته فى وصف المشهد السورى الراهن؟
عودة مجددًا إلى الشجون السورية، على خلفية أحداث الساحل السورى المأساوية.
فى مقال سابق بجريدة الشروق (16 يناير 2025) أشرت إلى أن العربة السورية تسير بحمولة ثقيلة من المواد الخطرة القابلة للانفجار، سواء بفعل فاعل أو تيار التداعيات.
منذ سقوط نظام الأسد كانت شرارات أمكن وأدها أو احتواؤها أو التعتيم عليها، ثم جاء انفجار الساحل السورى عصيًّا فاستلزم المواجهات تلتها التداعيات، وليس هناك ما يحول دون المزيد. فالتنظيمات المسلحة القابلة للحركة أو التحريك عديدة؛ حركة أولى البأس، الوعد الصادق، الخصيبيين، لواء درع الساحل، لواء درع الجبل، حركة الصابرين، مجموعة سهيل الحسن (النمر)، المجلس العسكرى الأعلى لتحرير سوريا (غيّاث دلّه)، المجلس العسكرى المؤقت لتحرير السويداء، وقد شكلت مجموعات منها جبهة مشتركة.
بدايةً، بغض النظر عن الاتهامات المتبادلة وما قد تكشف عنه التحقيقات المزمعة، فإن السياق العام للمشهد السورى كانت مقدماته تنبئ عن قادمه.
فالأطراف الفاعلة مُرَكَّبة من مزيج داخلى وإقليمى ودولى، مع تقاطعات معقدة، فداخل كل طرف خلافات وبين كل طرف وآخر صراعات، والمصالح لا تلتقى فى الأساس ولكنها أيضًا لا تتعارض على الدوام. فتنشأ تحالفات حسب الطلب، قبل أن تتضارب المصالح وتنقلب الأطراف ذاتها على بعضها البعض.
والمفارقة أن هناك فاعلين ناشطين على الأرض لديهم رغبة فى الفوضى، وثمة فاعلون راغبون فى الاستقرار ولكن ليسوا على الأرض.
• • •
الصراع الداخلى على تقاسم الكعكة السورية جاء على عجل قبل تأمين مقومات بقائها. حل الجيش والمؤسسات الأمنية السورية، ألقى بحوالى مائتى ألف من العلويين كثيرهم من المدربين من قمة الحظوة والمكانة إلى هاوية البطالة والاستبعاد الذى تحول بدوره إلى استعداء. هذا فضلاً عن الهوية الطائفية وتشابكاتها وتعقيداتها.
وعلى منوال موازٍ فى الاضطراب مع اختلاف الملابسات، تأتى تعقيدات الحالة الكردية والدرزية والمسيحية وغيرها من أطياف الموزاييك السورى.
الحوار الوطنى السورى الداخلى مؤخرًا، يرى بعض السوريين أنه شابه قصور فى الإعداد والمشاركات، وجاء قاصرًا فى النتائج والمخرجات.
المعضلة الأساسية فى سوريا منذ الاستقلال لم تُحل بعد، وهى تأصيل هوية سورية جامعة مفارقة للهوية الطائفية والدينية ومستوعبة لها، تمثل قوة جذب داخلى وانصهار اندماجى لمختلف المكونات. على خلاف ذلك كانت الصيغة البعثية السائدة هى رابطة ضاغطة من الخارج على جميع مكونات المجتمع، إحدى دعاماتها شعارات القومية العربية فكانت صفة العربى تلصق بأى كيان سورى، والدعامة الأخرى قهر وبطش أمنى لاحق كل مواطن سورى.
النظام الجديد فى دمشق قفز سريعًا من محاولة تأمين المجتمع إلى السعى لتأمين النظام، واكتساب مشروعية القبول الخارجى قبل شرعية الرضاء الداخلى. هذا الخلط فى الأولويات، مع قلة الخبرة فى إدارة دولة بالغة التعقيد كسوريا، فادح الثمن.
• • •
الأطراف الإقليمية التى خسرت اللعبة فى سوريا لم تخسر كل الأوراق، فإيران التى استثمرت فى نظام الأسد لا تترك الساحة للسلطان التركى ليهنأ بها، ولو بتفخيخ الداخل السورى بتفعيل الموالين الكامنين من فلول النظام السابق وبقايا خلايا حزب الله، فضلاً عن دعم قوات قسد الكردية نكاية فى أنقرة ودمشق معًا.
إسرائيل التى وطنت نفسها لعقود على موجة نظام الأسد، زئير بلا فعل، وجدت نفسها أمام خليط متعدد الجنسيات من الجماعات المتشددة، لا يُخشى منه حاليًا ولكن لا يؤمن جانبه مستقبلاً. تماهت الحدود الجغرافية مع الجار السورى لتغدو استراتيجيًا مع السلطان التركى المدجج بجيش قوى وطموح أقوى. الأمر الذى استغلته إسرائيل للتوغل والعبث فى الأراضى السورية.
محور أستانا (الروسى/ التركى/ الإيرانى) الذى كان يدير المشهد السورى كشركة مساهمة، ليس فيها طرف عربى واحد؛ تفكك بسقوط الأسد ولكن ما زال كل من أطرافه يحاول إدارة المشهد لحسابه، بالتعاون مع شركاء قدامى أو جدد.
فإذا انتقلنا إلى السياق الدولى، نرى القاطرة التى تَجُّر الأحداث فى المنطقة إلى مصير مجهول. فالنظام الدولى المتآكل حاليًا، بمثابة سفينة جانحة ينقذ القادرون فيها أنفسهم، ويلقون بالآخرين إلى مصيرهم.
ومع المشروعات المتعددة ــ واستمرار غياب المشروع العربى ــ للشرق الأوسط، دخل المشروع الأمريكى بقوة على الخط. ففى أعقاب أحداث الساحل السورى، عجَّلَت واشنطن باتفاق قوات قسد الكردية مع دمشق، تلاه إصدار الإعلان الدستورى. خطوات تخلط الأوراق، وتربك الحسابات التركية والإيرانية، وتعمل على ضبط حدة الصرع الداخلى فى سوريا. علمًا بأن المسألة الكردية لم تحل بالاتفاق الأخير حيث تظل المسائل المهمة محالة إلى لجان وتفاوض.
قراءة حسابات المصالح الدولية تؤشر إلى الرغبة فى الحيلولة دون سيناريو الفوضى حاليًا بتداعياته على مجمل الأوضاع القلقة فى المنطقة. بالتالى فمن المهم وجود حاضنة عربية، تدفع دمشق نحو قدر من الاعتدال والانفتاح واحتواء التعددية، ولا تترك سوريا للملاذ التركى، كما تم تركها من قبل للملاذ الإيرانى. فضلاً عن أن إعادة الإعمار فى سوريا لا يجب ترك جُلّ ثمارها تؤول إلى خارج العالم العربى.
• • •
على صعيد آخر، تدخل السياسة السورية مرحلة جديدة، يغيب فيها الجيش الذى ظل المحرك السياسى فى سوريا لعدة عقود، قائدًا لانقلابات عسكرية متتالية، وعاملاً حاضرًا فى التوازن الاستراتيجى بالمنطقة. وهو معطى جديد ذو تداعيات فى العلاقة بين المكونين العسكرى والمدنى فى سوريا والمنطقة.
ثمة تصور لدى الكثيرين بأن الوضع الحالى فى سوريا غير مستدام، وبالتالى فليسرع كل طرف باقتناص أكبر مكاسب، مع إبقاء الوضع هشًا ضاغطًا على حافة الهاوية، دون التفريط بالتخلى المفضى للفوضى أو الإفراط بالدعم المؤدى لاستقلالية الحركة.
فالطرف الأمريكى حاضر على الأرض وحاصل على الثروات النفطية، يتواصل مع دمشق دون الاعتراف الرسمى أو التخلى ــ للآن ــ عن ورقة العقوبات. والجانب الأوروبى يتعجل التخلص من اللاجئين، وعدم استعداء تيارات السلفية الجهادية ضد مصالحه. أما الدب الروسى فكامن فى قواعده بالساحل بأمل الإبقاء عليها، وتجدر الإشارة إلى أنه خلال أحداث الساحل الأخيرة لجأ مئات العلويين إلى قاعدة حميميم، فضلاً عن لجوء آلاف من الضباط العلويين إلى موسكو عشية سقوط نظام الأسد.
• • •
استقرار الأوضاع فى سوريا والحيلولة دون سيناريو الفوضى فى صالح مصر والمحيط العربي. وهذا يعتمد على عاملين أساسيين؛ أحدهما المعادلة الاقتصادية وتوفير سبل العيش، ومربطه رفع العقوبات، والعامل الثانى وجود حاضنة داخلية وإقليمية توفر الاستقرار لأطول فترة ممكنة.
ثمة معضلة استراتيجية قوامها أن الفوضى فى سوريا تعم سلبياتها على الجميع داخلها وخارجها، أما الاستقرار فيسعى البعض لتكون ثماره خاصة بهم، مما يخلق تناقضات مصلحية تزكيها عوامل طائفية ودينية، وتدخلات إقليمية ودولية.
يزيد الأمور تعقيدًا استباق الأحداث وإسقاط التصورات على الواقع، فكثير من القراءات للإعلان الدستورى تعمد إلى تأويلات ــ سلبًا أو إيجابًا ــ مفارقة للنص، معتمدة على الثقة فى النوايا أو التشكيك فيها، وكليهما ليس صائبًا بالضرورة. كما أن رد الفعل الكردى والدرزى، ناهيك عن العلوى والمسيحى، جاء سلبيًا.
• • •
أين المصلحة المصرية والعربية فى خضم هذا البحر المتلاطم الأمواج والأهواء؟
بدايةً، سوريا بوابة ــ تاريخيا ــ لمصر، ذات ارتباط مباشر بالأمن القومى. كذلك تفاعلات الزمن بين الشعبين على أصعدة متعددة أوجدت من الوشائج ما لا يمكن فصمه.
وعربيًا، فإن استهداف دمشق بعد استهداف بغداد يمثل خصمًا استراتيجيًا على حساب العالم العربى. والدفع برؤى تقسيم سوريا بوابة للمضى بمخططات التقسيم والتجزئة فى المنطقة.
دعوة الرئيس السورى الجديد لحضور القمة العربية الطارئة بالقاهرة ومشاركته فيها خطوة مهمة على مسار التواصل بين القاهرة ودمشق، سبقتها ويفترض أن تتلوها خطوات.
فمع تواتر التواصل العربى والإقليمى والدولى مع حكومة دمشق، لم يكن للقاهرة أن تظل بعيدة عن قطار الأحداث. التواصل لا مناص منه، وما لا يدرك كُلّه لا يترك جُلّه. ومن الممكن للقاهرة، وهو على الأرجح حادث، التحرك على مسار مزدوج للتواصل والمصارحة، أحدهما سياسى والآخر أمنى. إضافة إلى ملف الاقتصاد ومسائل العقوبات والإعمار وإعادة بناء المؤسسات.
آلاف السوريين الذين التجأوا إلى مصر، وعاشوا وعملوا وأضافوا لأنفسهم ولمحيطهم المصرى، ملف يفترض أن يكون فى عداد الرصيد الإيجابى للعلاقات بين القاهرة ودمشق.
مستقبل وشكل الحكم فى سوريا يحسمه السوريون أنفسهم فى الداخل، ولو بعد حين، وليس يجدى استنباط أو استنبات تجارب من الخارج.
لكن التواصل ضرورى، والحوار الجاد الصريح مهم، ومن المهم أيضًا أن تكون فى دمشق الرؤى منفتحة والآذان صاغية ومدركة لحجم التحديات.
أخذًا فى الاعتبار كل هذه التجاذبات والتباينات والصراعات الظاهرة والمستترة؛ هل يمكن القول أن نموذجًا جديدًا ناجحًا للإسلام السياسى سيبزغ فى سوريا؟ أو صيغة عربية ناجعة لحكم مدنى ديمقراطى؟ وهل الاستقرار قريب المنال فى بلاد الشام؟ بكثير من الألم وقليل من الأمل ليس سوى انتظار الصعب، ويصعب أن تكون الإجابة بالإيجاب.