هل يمكن تحقيق العدالة والقصاص معًا؟
زياد بهاء الدين
آخر تحديث:
الثلاثاء 26 أبريل 2011 - 9:15 ص
بتوقيت القاهرة
ترددت كثيرا قبل كتابة هذا المقال لأن الظرف العام فى مصر لا يسمح بتناول موضوع الفساد والعدالة والقصاص تناولا هادئا وموضوعيا بل لا يزال مدفوعا بغضب جارف ومبرر تماما لدى الناس من تراكم الظلم والفساد والسرقة فى المجتمع.
وهذا يجعل من الصعب الحديث عن العدالة والقانون بقدر من الموضوعية دون أن يتعرض من يطرح ذلك لانتقادات بأنه غير مقدر لحجم الفساد الذى كان قد استشرى أو لأهمية القصاص من المسئولين عنه.
ولكن هذه تحديدا هى إشكالية العدالة ومفهومها الحقيقى، أن الدفاع عنها يجب أن يكون فى الأوقات التى تتعرض فيها فكرة العدل والقانون للانحسار تحت وطأة الضغط الشعبى الراغب فى اختزال الوقت والإجراءات والضوابط من أجل تحقيق نتائج مرضية وسريعة.
ولكن ما حسم ترددى هو تفاقم الوضع وعدم اكتراث الرأى العام بفكرة العدالة إلى درجة أصبحت خطيرة وتهدد ليس فقط ما جاءت ثورة يناير من أجل إرسائه من قيم جديدة للحرية والعدل والكرامة الإنسانية، وإنما مستقبل مصر ما بعد الثورة.
ثم ما قيمة الكتابة إذا كنا سوف نكتفى بترديد ما يرغب الناس فى قراءته وتجنب كل ما يمكن أن يثير حفيظتهم؟ لذلك رأيت أن خطورة الأمر لا تحتمل الانتظار أيا كانت العواقب. وحديثى هنا ليس موجها إلى جهات الرقابة أو التحقيق أو القضاء، فكلها جهات لها احترامها واستقلالها والتدخل فى عملها أو التعقيب عليه غير مقبول إلا من خلال ساحات القضاء ومن خلال الوسائل المقررة قانونا.
مقالى هذا موجه للرأى العام ولمن يؤثرون فيه من رجال الفكر والسياسة والإعلام ومن يخاطبون جماهير الثورة وجموع الشعب المصرى، آملا أن يضعوا ثقلهم السياسى والمعنوى وراء الدفاع عن دولة القانون باعتبارها القيمة الأسمى التى يجب أن نتمسك بها جميعا.
تحديدا فإننى أدعوهم إلى تبنى أربعة مواقف محددة فى التعامل مع قضية الفساد المالى:
الموقف الأول هو أهمية أن يدرك الرأى العام ضرورة التمييز بين فساد السياسات وفساد القائمين على تطبيقها. لقد عمدت الحكومات المتعاقبة إلى تطبيق سياسات لم تلق قبولا شعبيا ولا ارتياحا من الرأى العام، ولذلك كانت تلك السياسات محل انتقاد ورفض جماهيرى.
ولكن عند محاسبة المسئولين عن تلك السياسات يلزم التمييز بين من قام بتطبيق قوانين وقواعد كانت قائمة بالفعل وصادرة عن مجلس تشريعى قائم، وبين من خالف تلك القواعد بحثا عن مكسب خاص أو لتحقيق مجاملة أو لغير ذلك من أشكال الفساد.
والقانون لا يحاسب الموظف والمسئول الحكومى عن تطبيق القواعد القائمة مهما كانت مكروهة أو مرفوضة شعبيا لأنها تكون عندئذ نتاج فساد سياسى يؤدى إلى صدور قوانين ونظم وقواعد مكروهة وغير معبرة عن رغبة الجماهير.
أما اعتبار الموظف الذى يطبق تلك السياسات المرفوضة جماهيريا دون أن يخالف القانون كمن ارتكب جريمة محددة فهو خروج عن العدالة وعن مبدأ ألا جريمة ولا عقوبة إلا بنص.
الموقف الثانى هو التمسك بمبدأ مشروعية القرار الإدارى الذى يتضمن سلطة تقديرية يتيحها القانون.
والمقصود هنا أن القانون المصرى ــ شأن كل نظام آخر فى العالم ــ لا يضع قواعد جامدة ونهائية لكل موقف وكل تصرف، وإنما يمنح الموظف العام، سواء وزيرا أو محافظا أو رئيس مصلحة أو مديرا، جانبا من السلطة التقديرية التى يجوز له مزاولتها وفقا لطبيعة الموقف.
هذا ضرورى وطبيعى لأن إلغاء السلطة التقديرية يعنى العودة لأسوأ أنواع الجمود البيروقراطى وتعطيل المصالح ووقف العمل الحكومى تماما.
ويترتب على القول بوجود سلطة تقديرية للموظف ــ من الوزير حتى المدير ــ أنه لا يجوز اعتبار مزاولته لسلطته التقديرية فسادا متى كانت فى إطار الحرية والصلاحيات الممنوحة له قانونا ومتى كانت لا تهدف لتحقيق أغراض غير مشروعة.
والقول بأن كل استثناء أو تعديل أو مزاولة لسلطة تقديرية هو نوع من الفساد وخروج عن القواعد هو تعميم خطير. فالوظيفة العامة تفترض اتخاذ قرارات معينة ليست فسادا متى كانت فى إطار سلطة الموظف التقديرية وتستهدف الصالح العام.
هذه قضية خطيرة لأننا مقبلون على شلل تام فى المصالح الحكومية لو لم يسترد المسئولون الحكوميون ثقتهم فى أن القانون يحمى تصرفاتهم وقراراتهم وسلطتهم التقديرية التى لا تستهدف فسادا ولا تحقق مصالح شخصية.
ولذلك أعود إلى ضرورة الاهتمام بالوقاية بقدر ما نهتم بالعلاج. مستقبل هذا الوطن ومخرجه من ظاهرة الفساد أن نضع القواعد والنظم والقوانين التى تمنع الفساد مستقبلا وتحدد لكل موظف الصواب والخطأ وتبين حدود سلطته التقديرية وتمنع تعارض مصالحه مع مقتضيات عمله، فهذا هو ما يفصل القرار المشروع من القرار المخالف للقانون.
الموقف الثالث هو التروى والتفكير بهدوء قبل رفض مبدأ المصالحة من أوله وعلى إطلاقه. فالتصالح آلية معروفة فى القانون المصرى وفى كل القوانين الحديثة لأنه وسيلة لتحقيق الصالح العام ولتقديم المصلحة الأبعد على المصلحة الأقرب.
رد الأراضى إلى الدولة، والحصول على تعويضات عادلة، وإزالة مبان مخالفة، وتسليم ممتلكات تم الحصول عليها بإجراءات غير سليمة، واسترداد أموال مهربة للخارج، كل هذه مصالح مشروعة للمجتمع وقد تعود عليه بمنافع كبرى خاصة فى ظروف اقتصادية صعبة، ولكن بشرط أن تكون وفقا لضوابط سليمة ومقبولة من المجتمع. ولكن هنا يلزم التمييز.
فالتصالح مع القاتل أو من مارس التعذيب وانتهاك الحريات يختلف عن التصالح مع من حصل على أراض بالمخالفة للإجراءات. والتصالح مع من استولى على فدان غير التصالح مع من استولى على مئات الآلاف من الأفدنة أو قام بتحويل مورد من موارد الدولة لخدمة أغراضه الخاصة. طبيعة المخالفة والجريمة يجب أن تؤخذ فى الاعتبار، وحجم الجريمة أيضا يؤخذ فى الحسبان عند تقدير ما إذا كان التصالح جائزا أم لا.
أما القول بأن كل تصالح وكل تفاهم وكل رد للأموال إلى الدولة يجب رفضه قطعيا ومن حيث المبدأ فلا يستقيم لا مع المنطق القانونى ولا مع الصالح العام، خاصة وأن التصالح فى حقيقته نوع من أنواع العقاب الذى تنظمه القوانين الجنائية.
أما الموقف الرابع فهو ضرورة النظر إلى الوضع الاقتصادى الحالى بشىء من المسئولية. نحن مقبلون على كارثة اقتصادية إذا لم نأخذ موضوع العودة للعمل والإنتاج والنشاط الاقتصادى مأخذ الجد.
والعودة للنشاط الاقتصادى ولتدوير عجلة الإنتاج لا تتعارض مع القصاص ومع ملاحقة الفاسدين. هذا أمر أكيد وليس مطروحا للنقاش. فليس مطلوبا أن نوقف ملاحقة الفساد تحت دعوى تنشيط الاقتصاد وإعادة الثقة للمستثمرين.
ما أطرحه تحديدا هو إدراك أن النشاط الاقتصادى والتنمية والإنتاج لا تتفق مع الشعور العام بغياب العدالة من الفكر السياسى والشعبى السائد، وبأن كل مستثمر متهم بالسرقة، وكل موظف عام متهم بالتربح، وكل مسئول فى مؤسسة عامة مذنب وفاسد إلى أن تثبت براءته.
البحث عن استثمار خليجى أو أجنبى أو حتى مصرى لن يكون مجديا ولا ممكنا، والحديث عن حوافز وضمانات ومبادرات لن يحقق أى أثر ما لم يسد فى المجتمع الشعور بأن تطبيق القانون ليس عمل وسائل الإعلام وليس متوقفا على صاحب الصوت الأعلى ولا رهنا بالقدرة على الضغط السياسى، وإنما هو عمل النيابات والمحاكم والهيئة القضائية وحدها وأن المجتمع يضع ثقته كاملة فى جهات الرقابة والتحقيق والقضاء ويحترم حقوق المتهمين فى المحاكمة العادلة.
دعونا نقف جميعا وراء قيمة العدالة والقانون فى هذه الظروف الصعبة، فهذا هو المكسب الباقى وهذا هو ما يجعل الثورة جديرة بأن تكون ثورة إنسانية نبيلة نفتخر بها جميعا ونتذكر بعد سنين طويلة أنها ناصرت الحق والعدل قبل القصاص والانتقام.