بعيدًا عن تزاوج الثروة والسلطة.. شراكة الحكومة والقطاع الخاص
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الأحد 26 أبريل 2020 - 9:30 م
بتوقيت القاهرة
عاد الحديث من جديد عن ضرورة مشاركة القطاع الخاص فى جهود التنمية التى تقوم بها الحكومة، تحدث عن ذلك السيد الرئيس متسائلا لماذا لا يقدم القطاع الخاص على المساهمة فى مشروعات الدولة فى سيناء التى تقوم القوات المسلحة ممثلة فى هيئتها الهندسية بتنفيذها، واجتمع الدكتور مصطفى مدبولى رئيس الوزراء الأسبوع الماضى بعدد من كبار رجال الأعمال من أصحاب الشركات الصناعية داعيا إلى السماع لمقترحاتهم حول كيفية الاستفادة من ظروف اضطراب النشاط الاقتصادى فى العالم تحت تأثير الجائحة لانطلاق التنمية الصناعية فى مصر. فهل ستشهد الفترة القادمة تغييرا جوهريا فى علاقة الدولة بالقطاع الخاص عموما وبكبار الشركات فيه، أم أن الجفوة التى قامت بين هذا القطاع والدولة منذ ٣٠ يونيو ٢٠١٤ فى سبيلها إلى الانتهاء، وهل سيؤدى ذلك مرة أخرى إلى شراكة بين الدولة والرأسمالية الكبيرة فى مصر ليس اقتصاديا فحسب، وإنما سياسيا أيضا؟ وهل ستمتد روح هذه الشراكة إلى علاقة الدولة بالمواطنين فرادى أو فى منظماتهم الجماعية والسياسية؟
دروس الماضى
التزاوج بين الثروة والسلطة سواء فى العهد الملكى أو فى العقد الأخير من حكم الرئيس الراحل حسنى مبارك هو الذى سمح بتوسع الرأسمالية الصناعية فى مصر، شركات بنك مصر الصناعية ظهرت كلها فى العهد الملكى، ومع أن طلعت حرب ابتعد بحكمة ونظر ثاقب عن عضوية أى من الأحزاب السياسية، إلا أنه كان حريصا على حسن العلاقة بينه وبين كبار رجال السياسة على اختلاف توجهاتهم. وبعض رؤساء الحكومات فى ذلك العهد، وخصوصا من بين أحزاب الأقلية التى كانت تساند الملك، كانوا هم أنفسهم من رؤساء العديد من الشركات، والمثل البارز على ذلك هو المرحوم إسماعيل صدقى الذى رأس الحكومة مرات عديدة خلال العهد الملكى. وحتى عندما لم يكن بعض رجال الأعمال راضيا عن حكومة معينة، فإنهم لم يعدموا وسيلة للدعوة للإطاحة بها من خلال علاقات غير بريئة مع الملك على نحو ما شاع عن دور للمليونير المرحوم أحمد عبود مؤسس صناعة السكر ومالك شركة ملاحية كبرى فى إقالة حكومة نجيب الهلالى الأخيرة فى سنة ١٩٥٢. كما عرفت الرأسمالية المصرية عصرا ذهبيا خلال العقد الأخير لحسنى مبارك، توسع فيه نشاطها فى جميع المجالات، وقصة المهندس أحمد عز مثل بارز على ذلك.
هذا التزاوج بين الثروة والسلطة فى العهد الملكى هو الذى دعا الضباط الأحرار أن يدرجوا ضمن ما عرف بأهداف الثورة الستة هدفا يدعو صراحة إلى القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، وربما يكون تكرار ذلك النموذج فى العقد الأخير لحسنى مبارك هو الذى أورث الخشية من قيام صلات وثيقة بين صانعى السياسة فى مصر وكبار رجال الأعمال بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٤. ولذلك فالسؤال المهم هنا هل هناك بديل آخر للتزاوج بين الثروة والسلطة كإطار للتوسع الرأسمالى فى مصر، وخصوصا توسع الرأسمالية الصناعية، والذى هو الهدف الواضح لرئيس الوزراء مستندا بكل تأكيد لدعم الرئيس عبدالفتاح السيسى. الإجابة على هذا السؤال تقتضى تحديد ما هو مطلوب من الرأسمالية المصرية عموما والرأسمالية الصناعية تحديدا ليس فقط فى ظروف الجائحة، ولكن لتحقيق نهضة اقتصادية ما زال أمامنا شوط طويل قبل الوصول لها، وأزعم أنها فى المجال الاقتصادى ليس لها عنوان آخر سوى أن تصبح مصر دولة صناعية جديدة وأن تسير على الطريق الذى عبرته من قبل دول مثل كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة بل والصين والهند، وثلاث منها أعضاء فى مجموعة العشرين التى تقود اقتصاد العالم.
ما هو المطلوب من الرأسمالية المصرية
من السذاجة حصر المطلوب من الرأسمالية المصرية فى الوقت الحاضر أو فى أى وقت فى تقديم التبرعات لخدمة أهداف اجتماعية أو لكى توضع تحت تصرف أجهزة الدولة تنفقها كما تشاء. طبعا مسألة التبرع من عدمه يجب أن تترك لكل فرد، رأسماليا كان أو صاحب مدخرات جاءته عن طريق مشروع. ولا يجب أن تفرض بقانون أو كنوع من الجباية لقاء تسهيلات استجابة لمطالب هى حق للمواطن تجاه الدولة. أول ما هو مطلوب من الرأسمالية المصرية هو أن يتوسع نشاطها لدعم الطاقة الإنتاجية للبلاد وخصوصا فى مجال الصناعة والخدمات المتقدمة، لأن هذا التوسع هو الذى يخلق فرص عمل ويتيح دخولا لأعداد كبيرة من المصريين فضلا عن أنه يمكن أن يقلل من الواردات أو يزيد من الصادرات. والطريق إلى ذلك ليس فقط بداية مشروعات جديدة أو تطوير مشروعات قائمة، ولكن الاجتهاد فى تحسين القدرة التنافسية للمنتجات بحيث يمكن النفاذ بنجاح إلى الأسواق الدولية أو الصمود فى مواجهة منافسة حادة فى السوق المحلية فى ظل قواعد حرية التجارة التى لا مفر لمصر من الخضوع لها. وكذلك فإن توسع النشاط هو الذى يتيح للمشروع الرأسمالى تسديد حق الدولة المشروع فى الحصول على ضرائب تستخدمها فى الوفاء بالحاجات الأساسية للمواطنين، وفى الارتفاع بمستوى ما تقدمه لهم من خدمات تعليمية وصحية وغيرها.
والمطلوب ثانيا من الرأسمالية المصرية أن تسعى للربح، ولكن فى ظروف المنافسة الصحيحة. من السذاجة بل الجهل بعلم الاقتصاد دعوة المشروعات الخاصة لعدم توخى الربح، ليس لأن السعى للربح مذموم لأنه تعبير عن الطمع، ولكن لأنه لا يستمر مشروع خاص إلا إذا كان يحقق ربحا، بل إن تحقيق الربح هو معيار أساسى لنجاحه، وهو أن يحصل على إيراد من بيع منتجاته على نحو يتجاوز نفقة ما ينتجه. ويتجاوز حصيلة الضريبة التى عليه دفعها. والربح هو مصدر الاستثمارات الجديدة التى تضمن الاستمرار فى زيادة الإنتاج، والانطلاق نحو مشروعات جديدة.
من المحتمل بكل تأكيد أن يميل صاحب المشروع الخاص للمبالغة فيما يتحصل عليه من ربح استغلالا لفائض فى الدخول لدى المستهلكين، أو لأن سلعة معينة تكتسب قيمة لها لا تقوم على اعتبارات اقتصادية، وإنما لأن الحصول عليها يهيئ للمواطن الإحساس بالوجاهة، وهذا هو حال بعض السلع المفرطة فى كماليتها أو التى ترتبط اجتماعيا بأصحاب الثروة والمكانة، أو لأن المنتج يتمتع بوضع احتكارى فى السوق. السلع المفرطة فى كماليتها مثل أحدث طراز للتليفون المحمول، أو أحدث سيارة، أو امتلاك مسكن فى منتجع لا يقيم فيه سوى أصحاب الثروات الطائلة هى أمور تتركها الدولة للمواطنين، ولكن عليها أن تتدخل لوقف البنية الاحتكارية أو النشاط الاحتكارى فى السوق.
وقد يضيف البعض أن المطلوب من الرأسمالية المصرية كذلك هو أن تشارك فى مشروعات الدولة. وهذا هو الذى دعا له السيد الرئيس. والواقع أن الرأسمالية المصرية وخصوصا العاملة فى المجال العقارى تشارك بالفعل فى مشروعات الدولة. ما أعرفه عن المشروعات التى يجرى تنفيذها فى كل من العاصمة الإدارية والعاصمة الصيفية فى العلمين أنها مشروعات تقوم بها كبرى شركات البناء فى مصر، ويفترض أن الدولة هى التى تتحمل نفقة هذه المشروعات، وأنها سوف تفى لهذه الشركات بالمقابل الصحيح وفى الوقت المناسب لما تقوم به من أنشطة، ولكن الدور المأمول من الرأسمالية المصرية فى الوقت الحاضر أن تسهم فى دفع النهضة الصناعية لمصر. وحتى يتحقق ذلك فليس من المتصور أن يجرى تحديد مجالات الإنتاج ونوع المشروعات من جانب أحد أجهزة الدولة، وليس على أصحاب المشروعات سوى قبول ما تطرحه الدولة عليهم وبشروطها. المتوقع أن أصحاب المشروعات هؤلاء لهم خبرة فى المجالات التى يعملون فيها، وسوف تخسر الدولة والمجتمع إذا أصبح كل المطلوب منهم أن ينفذوا ما تراه أجهزة معينة فى الدولة ليس من تقاليدها تقرير المشروعات بناء على حاجات السوق أو معرفة به. مشاركة أصحاب المشروعات الصناعية فى تحديد الأولويات والتخطيط للأنشطة الجديدة على قدم المساواة مع كبار العاملين المتخصصين فى أجهزة الدولة المعنية شرط ضرورى لنجاح هذه الأنشطة والمشروعات. بل إن المطلوب منهم أن يتخذوا المبادرة ويطرحوا أفكارا جديدة ولا يطلبون من الدولة فى هذه الحالات سوى أن توفر لهم البيئة الميسرة.
الوضع المثالى هو أن تكون النهضة الصناعية التى يجرى الحديث عنها استراتيجية للدولة والمجتمع، وليست مجرد اجتهاد من رئيس للوزراء لا يعرف إلى متى يبقى فى منصبه، وأن تكون هذه الاستراتيجية موضع توافق عام فى المجتمع، توفر لها كل الظروف الميسرة. والعجيب حقا أن التشاور حول النهوض بالصناعة يجرى بعيدا عن أجهزة التخطيط فى الحكومة نفسها، وكأن خطط الحكومة التى يكثر الحديث عن نجاحها لا علاقة لها بما يريده رئيس الوزراء من انطلاقة صناعية.
قواعد الشراكة الصحيحة بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدنى
كل دولة فى علاقتها بالمجتمع لها صفتان، أولهما أنها سلطة ذات سيادة ومن ثم فأوامرها واجبة الطاعة والخروج عليها يستلزم إنزال العقاب طبعا بشرط أن تمارس سيادتها وفقا لقواعد قانونية عامة وموضوعية ومنصفة وجلية تتمتع بالشفافية، وصفتها الثانية أنها فاعل خاص يستأجر أراضى ويشغل أشخاصا ويتعاقد على أنشطة، وهى عندما تنخرط فى أنشطة اقتصادية لا تصدر أوامر وإنما تخضع لقوانين السوق أو تتشاور مع من تريد أن تتعاون معهم، أو توفر لهم من الحوافز ما يجعلهم يستجيبون لرغباتها.
والدعوة إلى أن تتشاور الدولة مع الرأسمالية المصرية إذا ما كانت تريد مشاركة فعالة معها فى مواجهة آثار الجائحة وما بعدها لا تستند إلى الاعتقاد بضرورة أن تحظى الرأسمالية المصرية بمعاملة خاصة ومتميزة، ولكن أن تكون تلك هى قاعدة تعاملها مع كل المواطنين، وخصوصا عندما يتحولون إلى فاعل جماعى فى إطار منظمات المجتمع المدنى والأحزاب السياسية. الشراكة المطلوبة فى هذا الظرف وفى كل ظرف هى الشراكة التى تقوم على الاحترام المتبادل، تقر فيه الدولة من خلال ممارساتها بحق كل المواطنين فرادى أو جمعيات أو أحزاب بحقوق التعبير والتنظيم وأن أحدا لا يحتكر الحقيقة. لو فعلت الدولة المصرية ذلك فسوف تندهش من حجم إقبال المجتمع على المشاركة فى جهود النهضة يتساوى فى ذلك الرأسماليون المصريون مع أقرانهم من المواطنات والمواطنين، وربما تحول هذه الأوضاع دون ظهور التزاوج بين الثروة والسلطة من جديد.