بورصة الأعمال الخيرية
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 26 أبريل 2021 - 7:15 م
بتوقيت القاهرة
كان العام ٢٠٠٤ علامة فارقة فى التاريخ الحديث لبورصتى القاهرة والإسكندرية. فقد شهد تغيير قياداتها وإيلاء الحكومة الجديدة (حكومة نظيف الأولى) عناية خاصا بالبورصة كمرآة للاقتصاد، وأداة هامة للطروحات العامة، وجذب الاستثمارات الخاصة، وتوسيع قاعدة ملكية أصول الدولة.
بدت المجموعة الاقتصادية بالحكومة الجديدة شديدة التناغم والحرص على توفير المقومات الضرورية لبورصة مصر، من أجل الانفتاح على المنظمات الدولية المعنية بتطوير أسواق المال، وتعديل التشريعات الحاكمة، واستحداث أدوات ومنتجات مالية جديدة، واستعادة مكانة وتصنيف بورصة الإسكندرية التى كانت ضمن أكبر خمس بورصات فى العالم فى نهاية أربعينيات ومطلع خمسينات القرن الماضى (قبل قرارات التأميم). كانت تلك الأهداف وغيرها حاضرة فى مخرجات أمانة السياسات للحزب الوطنى الحاكم آنذاك. وكانت تلك الأمانة (بغض النظر عن مآربها السياسية) مخزنا للأفكار، يتسم بالحراك والاحتواء لمختلف الآراء ووجهات النظر.
شاء القدر أن يتزامن انضمامى إلى المكتب الفنى لرئيس البورصة مع كل تلك المتغيرات، حتى شعرت أننى صرت جزءا من منظومة التغيير، وعملت جهدى كى أترك بصمة مبكرة فى مخرجاتها. لم تمر أسابيع حتى وجد فريق العمل الصغير نفسه أمام العديد من ملفات التطوير، والتى كان منها استحداث أدوات جديدة مثل صناديق المؤشرات، وآليات الشراء بالهامش وبيع الأسهم المقترضة، وصانع السوق، وبيع الأسهم المشتراة فى ذات الجلسة، وتداول الحقوق فضلا عن خلق عائلة كاملة من المؤشرات وإنشاء إدارة جديدة للمخاطر... بل إن القرار الجمهورى المنظم للبورصة كان فى حاجة إلى تعديلات كثيرة نشأ عن أحدها اسم «البورصة المصرية» لأول مرة فى تاريخها (كنت أفضل اسم بورصة مصر لأسباب عدة تناولتها فى مقال سابق). ثم كان تثبيت نظام حديث متطور للتداول يسمح بتداول العقود والمشتقات، وتلك الأخيرة كانت جهود دراستها وتنظيمها تسير وفق خطة زمنية محكمة، ولكنها لم تر النور حتى تاريخه لأسباب كثيرة، أبرزها تداعيات الحراك السياسى فى مصر منذ عام ٢٠١١.
***
عندما تولت الإدارة الجديدة للبورصة مهامها، كان ملف المسئولية المجتمعية والبيئية وترسيخ مبادئ الحوكمة من الملفات الناشئة، التى لم تمنحها اللجنة الاستشارية الدولية للبورصة العناية الواجبة، نظرا لحداثة مفهوم الاستدامة sustainability وقد بلورته لاحقا أهداف التنمية المستدامة الصادرة عن البنك الدولى عام 2015. كذلك لم تكن غرف ولجان الاستدامة بالاتحاد العالمى للبورصات قد شكلت بعد (والتى انتخبت نائبا لرئيسها لاحقا كأول مصرى وعربى يحظى بهذا التكليف). من ناحية أخرى لم تكن سوق الأعمال الخيرية فى مصر قد راجت على النحو الذى نراه اليوم يحتل مساحات كبيرة من هواء الإعلانات المتلفزة، وهو الأمر الذى استفزنى غير مرة للمطالبة بـ «حوكمة الأموال الخيرية» (طالع مقالنا بهذا العنوان فى أرشيف الشروق بتاريخ 9 يوليو 2016).
استغرقت الإدارة الجديدة للبورصة بضعة أشهر حتى تمكنت من تثبيت أقدامها فى سوق رأس المال، بعد اجتياز تجربتى طرح ناجحتين لأسهم شركتى سيدى كرير وأموك. حينها ناقشت مع رئيسها الألمعى الأستاذ ماجد شوقى فكرة إنشاء منصة تداول خاصة لتمويل المشروعات الخيرية، مستفيدين من زخم الإقبال الشعبى على سوق المال، والذى أعقبه أكبر حملة تكويد للمتعاملين (تمهيدا لطرح عام عظيم لأسهم شركة المصرية للاتصالات) ومقتدين ببورصة بوفيسبا الاجتماعية فى البرازيل، والتى كانت رائدة فى هذا النوع من المنصات منذ العام 2003. كان مستشفى سرطان الأطفال قد بدا لى حينئذ مرشحا جيدا للتعاون. ما ينبغى علينا هو تحويل فكرة التبرع ولو بجنيه (وهى الجملة المسيطرة على الحملة الإعلانية للمستشفى) من مجرد عمل خيرى يندرج تحت باب الإحسان، إلى عمل منظم يصلح لتمويل الأبنية والأجهزة الطبية وغرف العمليات من خلال الاكتتاب العام فيها، بحيث يصير لكل مساهم أو حامل لصك تمويل، حق ملكية أدبية معنوية فى تلك الأصول والمنقولات، ويصبح تخصيص الأموال بين الأعمال الخيرية منظما (ومراقبا) ومحققا لعدالة التوزيع...
ما كاد رئيس البورصة يصغى إلى الفكرة حتى وجه تكليفا لى ولمستشارته النابهة الدكتورة شهيرة عبدالشهيد ببحث الأمر مع إدارة مستشفى كبير. على الفور توجهنا إلى المستشفى وعرضنا الفكرة الجديدة المبتكرة، ولم تكن المدفوعات الإلكترونية قد تطورت بعد إلى الحد الذى نشهده اليوم، ولم تكن هناك بدائل لمنصات الدفع بخلاف بطاقات الائتمان التقليدية، ولم يكن فى مصر نظاما إلكترونيا بمقدوره التعامل مع ملايين المعاملات بكفاءة وسرعة أفضل من نظام التداول فى البورصة. كان علينا أن نعطى لمتخذى القرار بالمستشفى محاضرة بدائية عن مفهوم البورصة وأدوارها وآليات التداول بها، وفكرة الطروحات والاكتتابات. للتبسيط اتخذنا أمثلة مباشرة عن تمويل أجهزة ومعدات طبية جديدة، فكل ما على الإدارة هو إعداد نشرة اكتتاب تفصيلية عن المعدات المطلوب توفيرها، على أن تشمل النشرة الغرض من المعدات وخصائصها وأسعارها (من واقع بيانات المناقصة العامة للشراء مثلا) ثم يتم الطرح فى البورصة عبر منصة خاصة (هى فى الواقع سوق أولية وليست ثانوية لأنه من غير المستساغ أن يتم تداول الأسهم والصكوك الخيرية الاجتماعية بعد الاكتتاب فيها) وهكذا يمكن تمويل جميع احتياجات المستشفى دون زيادة أو نقصان، بما فى ذلك الرواتب ومصروفات التشغيل التى يمكن الاكتتاب فى تمويلها بنفس الآلية، مع إتاحة الفرصة ذاتها لمختلف المشروعات التى سيتم قيدها فى البورصة.
لكن المشروع تعطل ولم يكتمل، وكانت صدمتى كبيرة حينما تبين لى أن السبب فى عدم حماس إدارة المستشفى للمشروع هو أن مستشفاهم يحتل بالفعل حصة سوقية كبيرة فى سوق الأعمال الخيرية، وأن إتاحة هذه المنصة من شأنه تعريضه لمنافسة غير ضرورية وغير مرغوبة! كنا نحن فريق البورصة نتحرى فى حديثنا طوال الاجتماع ألا تطغى مفردات المال والأعمال على الغرض الإنسانى من المشروع، فإذا بنا نحاصر فى خانة نظرية الأسواق، وتفضيلات المحتكر، ومواءمات التسويق... وإذا بالمشروع الاجتماعى يتخذ مسارا ماديا غير مستساغ. يومها علمت أن فكرة المنصة الاجتماعية فى البورصة لن يكتب لها النجاح، خاصة وأن قرار تدشين منصة تداول يحتاج إلى دعم سياسى، ناهيك عن احتمال تعرضه لمقاومة عنيفة من أطراف فاعلة فى المجتمع.
***
لا أذكر تلك الأحداث من باب النيل من أحد أو الحط من قيمة أى كيان خيرى، وخاصة تلك الكيانات التى تمتلك مقومات النجاح والإجادة. فقط أريد أن أسجل للتاريخ وجها من وجوه ريادة البورصة المصرية فى مجال العمل الاجتماعى، وأن أبعث فكرة المشروع من مرقدها، فمازالت الحاجة إلى حوكمة الاحتياجات والمتطلبات قائمة لمختلف الأعمال الخيرية فى مصر، ومازالت الأموال تنهمر على مؤسسة تملك مصاريف الدعاية والإعلان ويحرم منها آلاف المؤسسات الأخرى المستحقة للرعاية.