زيطة صانع العاهات..!!
وحيد حامد
آخر تحديث:
الثلاثاء 26 مايو 2009 - 9:43 م
بتوقيت القاهرة
أصبح الإعلام آلة جهنمية بشعة ونهمة، آلة تحتاج إلى وقود كثير ومتواصل وهو من كل أنواع المحروقات بما فى ذلك أجساد البشر ومصائبهم.. والإعلام يتوحش يوما بعد يوم ويفرض سطوته وجبروته على الناس بالحق أحيانا وبالباطل فى أحيان أكثر..
وإذا كان دور الإعلان الأساسى هو بناء العقول وتنويرها فإن هناك الإعلام المضاد المكلف بهدم وتخريب العقول وفرض حالة الإظلام على المجتمعات..
ودور جديد تسلل إليه الإعلام وهو أخطر الأدوار وأشدها إضرارا بالشعوب وهو خلق أمر واقع وفرضه على الناس بكثرة التكرار أو الإلحاح بغض النظر عن نوعية وطبيعة هذا الأمر الواقع وهل هو صواب أم خطأ؟!.
وفى ظل تعدد القنوات الفضائية وكثرة برامجها فإن المنافسة شديدة وحامية.. فإذا حققت إحدى القنوات طفرة جماهيرية لأنها تقوم بجمع التبرعات وتطلب المساعدات الإنسانية للفقراء والمرضى فإن جميع القنوات الأخرى تلجأ إلى نفس الطريقة والالتفاف حول نفس الفكرة.
وكل قناة تزايد على الأخرى وتبالغ حتى أصبحت هذه القنوات مثل «زيطة» صانع العاهات الذى يقتلع العيون ويقطع الأيدى والأرجل حتى يقدم للشارع الأعمى والأكتع والأعرج..
كما فى رواية الراحل العظيم نجيب محفوظ.. وهذه متاجرة بآلام الفقراء والمرضى وهى تحقق أعلى نسبة ربح معنوى ومادى للمسئولين عن هذه القنوات، وهم فى نظر البسطاء أهل الرحمة وهم الأولى بالدعاء بعد كل صلاة، وفى نفس الوقت يحصلون على أرباحهم وأجورهم دون أن تمس..
وأى صاحب عقل يدرك أن علاج حالة مرضية من ألف حالة لن يحل أى مشكلة.. وتقديم المساعدة لشخص محتاج لن يحل مشاكل ملايين المحتاجين.. وإنما القضاء على المشاكل المزمنة يحتاج إلى جهد دولة أولا وجهد جماعى مؤثر وفعال يستفيد منه أكبر عدد من البشر.
لا مجرد عينات يتم استغلالها فى البرامج ويتم كشف كل أوجاعهم الحقيقية دون حتى أن يحصلوا على أجر الكومبارس.. إنه استغلال غير إنسانى لأحوال شعب بائس لا تهتم به حكومة مترفة ومتعالية وإعلام مثل قطار الفحم يلفظ دخانه الأسود ملوثا الهواء ومدمرا وخانقا لكل أمل..
وهكذا أصبحت هذه القنوات هى المروج الأول لثقافة التسول والدفع بمشاكل الفقراء والمرضى وكل أصحاب المآسى إلى ساحة أهل الخير أصحاب القلوب الرحيمة، وهذا هو الحل البائس المهزوم مسبقا، بينما تتراجع هذه القنوات عن المواجهة الحقيقية التى من شأنها أن تقضى على المشكلة من جذورها..
علاج مريض على نفقة متبرع ليس انتصارا.. ولكن الانتصار هو بناء مستشفى يخدم آلاف المرضى.. وإيجاد فرصة عمل حقيقية لعاطل أفضل له وللدولة من تقديم مساعدة إليه من رجل طيب أو سيدة محسنة.. ولكن القنوات الفضائية تعزف ألحان الشفقة والحزن بعد أن بثت كل مشاهد الألم التى جمعتها بعد بحث طويل..
وأرجو ألا يتصور أحد الحمقى أنى واحد من الأثرياء المترفين المتأففين الذين لا يروق لهم رؤية مشاهد الفقر والمرضى أو النفور منها..
فقد عشت الفقر الدكر حتى أراد الله سبحانه وتعالى أن أنتصر عليه بالعمل والجد والصبر والمثابرة وهى المثل التى كنا نتعلمها على أيامنا فى كل ما نقرأ ونسمع ونشاهد، حيث كانت الإذاعة لها منهج ورسالة وتخضع لرؤية مثقفين عظام..
وحتى التليفزيون المصرى إلى عهد قريب كان بمثابة المنارة الثقافية والحضارية والتربوية، أما بعد هذا الهوس الفضائى وتعدد المصالح والأغراض والأهواء فإن المشاهد المسكين يتمزق ويتم اللعب فى عقله مباشرة، فهناك من يروج للخرافة ولا يجد من يردعه.. وهناك من يدعو صراحة إلى الانهزامية والاستسلام للأمر الواقع مع مرارته.. وهناك قنوات متخصصة فى الدعوة.. ولكن أى دعوة..؟!
ومن هم هؤلاء الدعاة الذين صدعوا رءوس الناس بأقوال لا سند لها آمن بها البسطاء فكانت بذرة التعصب والانغلاق والتخلف بينما يتجاهلون وعن عمد كل ما ورد فى صحيح الدين من آيات وأحاديث تدعونا إلى العمل والعلم والعدل والإخلاص والتراحم واحترام الآخرين والتكافل الاجتماعى، وينصرفون إلى صنع البلبلة بين الناس وزرع الفرقة بين المسلم والمسلم.. والمسلم وأى صاحب ديانة أخرى..
تكاد بعض هذه القنوات تكون مأجورة لتخريب المجتمع العربى كله.. فإذا قررت هذه القنوات أن تقدم للمشاهد مواد ترفيهية فإنها لا تعرف الفرق بين الترفيه الممتع الذى ينهض بالذوق العام للمشاهد ويكسبه عادات وسلوكيات محمودة وطيبة..
وإنما تقدم المسخ الهابط والمتدنى الذى يحمل فى جنباته كل معانى الإسفاف والتدنى.. وانظروا إلى رأس المشاهد الذى يستقبل برامج التشدد والتزمت بكل جمودها، وفى نفس الوقت يستقبل خلاعة مفرطة وترفيها هزيلا.. وعليه فبدلا من أن يرتقى الإعلام بنا ويصعد إلى أعلى.. يأخذنا معه ويهبط بنا إلى أسفل..
أما ثالثة الأثافى وهى الإعلام المأجور الذى يوظف كل إمكاناته لخدمة شخص..أو مؤسسة..أو تجارة..
أو ينحز لقضية ويحاول أن يأخذ دور القاضى ويصدر الأحكام المسبقة سواء كانت مع أو ضد.. وقد كان هذا واضحا فى قضية هشام طلعت مصطفى منذ البداية لولا قرار حظر النشر الحاسم والذى حافظ على سير القضية دون أى انفلات..
وبمناسبة هذه القضية أعتقد أن حكم الإعدام فى حالة صدوره سوف لا يسعد أحدا بما فى ذلك القضاة الذين سيصدرون الحكم.. وأيضا الناس غير سعداء بالجريمة التى حدثت.. فلا أحد يتمنى الموت لأحد سواء كان الموت نتيجة عمل إجرامى أم نتيجة حكم قضائى.. وعلينا أن نتمهل ونتروى ونترك العدل يأخذ مجراه..
وفى النهاية سنكون سعداء بانتصار العدالة سواء كانت لصالح السيد هشام أو فى غير صالحه.. فسلامة العدالة أهم من سلامة كل ما هو دونها.
وحيد حامد