اكتشافات نشكر عليها الوباء
صحافة عربية
آخر تحديث:
الثلاثاء 26 مايو 2020 - 10:25 م
بتوقيت القاهرة
نشرت جريدة الرياض السعودية مقالا للكاتبة رجاء عالم تناولت فيه بعض الحقائق الذى أظهرها الوباء منها صعوبة تجنب الملامسة فى التعامل وأن الكمامة أظهرت أن عيوننا أبرع فى توصيل الغضب... نعرض منه ما يلى:
لتكويننا النفسى عوالٍ وسوافل، العوالى منيعة بينما السوافل تتعرض لهزات مربكة بين الحين والحين، لكن دعونا نصادق تلك السوافل ولا نتبرأ منها ولا نحتقرها، لأنها ضرورية لإحداث هزات تقودنا للتأمل ولتنقية الشروخ الخفية فى النفس وبالتالى للارتقاء الروحى بعد كل هزة درجة، الدرجة وراء الدرجة.
الحجر يجعلك تواجه حقيقة أن الاجتماع البشرى قائم على الملامسة والقرب، لا يمكن تخيل كمية الملامسات والتقارب التى نمارسها يوميا، كل المواقع المخترعة للاحتفاء بالحياة تعتمد التقارب البشرى كما فى المقاهى والمطاعم ووسائل المواصلات ومواقع التعاملات المختلفة ومواقع الإنتاج.. بوسع كل منا مراقبة حجم القرب الذى يُحْدِثه، إذ مجرد وجودك فى مكان يخلق عددا من الملامسات سواء بالمصافحة أو الحضن أو الربت على الكتف، أو مس الذراع برفق، أو مجرد الدنو لتبادل حوار أو حتى المرور بمحاذاة الآخر. باختصار أنت حقل توصيل، إذا وبالإضافة للتوصيل اللغوى بالكلام هناك توصيل عميق بالملامسة مهما اختلفت درجتها، وعلى اختلاف الأعمار فهناك افتقاد للشعور بالقبول والحب يسببه السيد كورونا، تفاجئنا شادية، «لابد من التدرب على الابتسام بالعين». حيث لاحظت أنها ومهما ابتسمت للآخرين وبالذات البائعات وحارسة العمارة مثلا فإن الكمامة تمسح الابتسامة مهما اتسعت بالأبيض الجامد.. الكمامة قاتلة الابتسامات، لابد من اختراقها وتوصيل مشاعر القبول والاستلطاف، حسنا أقف أمام المرآة بالكمامة وأعمل على تمرين عينى على الابتسام.. أفتحهما للأعلى للأسفل فى مناورة مع حافة الكمامة، ممطوطتين للخارج بضحكة، كل ذلك لتقول للآخر بأنك لطيف، تدرك أن العين أبرع فى توصيل الغضب من توصيلها لضحكة، بمساعدة الحاجبين الذين لا يضحكان أبدا.. أفتح عينى أوسع ويرتفع الحاجبان ليعبرا عن الاستنكار.. أرقق النظرة لتستقل عن الحاجب وتضحك، أشعر بعينى تلهث كمن يتسلق خندقا ليمطر البشر بالقبول.. تمرين صعب، فالكمامة ببساطة لا تضحك. لكن دعونا لا نيأس.
هذا الحجر الصحى يخلق الكثير من التحديات، فى تحقيق صحفى يشتكى هذا الرجل الأبكم والأصم من الكمامات: «الكمامة تحول بينى وبين قراءة شفاه الباعة مثلا والناس حولى، وهذا يرمينى فى عزلة، أشعر كمن يهوى فى بئر من الوحشة، بغياب الشفاه كل شىء سكت فجأة وكف عن محادثتى ووصلى، أنا وحيد».
كيف لنا أن نتخيل أهمية شفاهنا للآخرين؟ اكتشاف نشكر عليه الكورونا بلاشك.. وغيره من الاكتشافات ربما يجىء.
أشياء تافهة لا يمكن تصديقها تتضخم فى الرأس المحوط بترس الفراغ تليه ترس الفزع من هذا المجهول الذى ينتظر لحظة من هدأة الليل أو الفجر ليهجم بـ«ماذا لو..»، أخيلة من ذاتك محمولا فى إسعاف، أخيلة من حبيب هنا وهناك يرقد معزولا يحشرج طلبا لنفحة أوكسجين، أخيلة بجثث تنتظر لساعات على الطريق حيث يلقيها ذووها ليأتى من يخلصهم منها، الكورونا تجعلنا نتبرأ من موتانا والموت. أخيلة تتوالد من حيث لا تدرى، وتناضل للخروج من غمامتها محذرا ذاتك، «العدو ليس الكورونا، العدو الأكبر الخوف، حين يدخل الخوف القلب تنهار المناعة». تحيط قلبك بحريرة من الأخيلة الإيجابية، بكونك منيعا على حافة نهر بعيد عن كوكب الكورونا.
الأرصفة تبدل وجوهها، تميل للنظافة، ما عادت تزعجها بقايا الأغذية وخطرات البصاق، صارت تترقط هنا وهناك بقناع يستلقى يلهث يرقبك تعبر، وقفاز طبى هنا وهناك عاجزة، صارت للأرصفة بعض ملامح المستشفيات، لكنها لا تعترض تستمر تنساب فى صمتها، ترقب ذاك الأعمى المقبل بعصاه تتحسسها تستجوبها عن الطريق، يصرخ ذلك الأعمى قائلا: «قاسية هى أيام الحجر، أجدنى على الطريق المحوط بالصمت، الصمت لا يساعد، يسد الطرق بوجهى، لا سيارات يرشدنى هديرها لأين ينتهى الرصيف ويبدأ الخطر، عادة صديقى هدير السيارات ومعه لا نكف عن الحوار، يعطينى فكرة عن حجم المسافة التى تحوطنى، أيضا فى الصمت والفراغ لا خُطى، لا وقع أقدام تخاطب عماى.. أنا تائه فى هذه الطرق التى تبدو كمن أسقطت صداقتنا وكفت عن الكلام».
مذهل هذا الحوار مع الضجيج، بلاشك سيفخر الضجيج بمثل هذا الاعتراف بالفضل.
أقف على حافة بوليفارد سان جيرمان الذى كان مثل نهر صاخب لا يكف عن الهدير، الآن يخيل إليك بأن الطرق قد رحلت وخلت المدن عمياء مسدودة الرئات..
الغريب هذا التوسع فى المخيلات، أشعر بجبهتى تتفتق بشهب، وحى يتساقط من كل نظرة يبادلنى إياها الصمت.
نشكر لك هذا أيضا سيد كورونا.. فماذا بعد؟ هل سترحل مع الصيف؟