سلام الأوهام مرة أخرى!
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأربعاء 26 مايو 2021 - 8:20 م
بتوقيت القاهرة
تلوح فى الأفق السياسى محاولات لإعادة إنتاج نوع من السلام يكاد يشبه ما جرى قبل ثلاثين سنة فى «مؤتمر مدريد»، وما تبعه من مفاوضات سرية فى «أوسلو» أفضت إلى دخول القضية الفلسطينية دوامات متعاقبة من «سلام الأوهام».
بين العاصمتين الإسبانية والنرويجية جرت مناورات ومساومات وتنازلات جوهرية فى صلب القضية الفلسطينية دون أن يترتب عليها أى سلام على أى أرض، كأنه «سلام بلا أرض» بتعبير المفكر الفلسطينى الراحل «إدوارد سعيد»، أو «سلام الأوهام» بتعبير الأستاذ «محمد حسنين هيكل».
التاريخ لا يعيد إنتاج نفسه، فالدنيا تغيرت وموازين وحسابات القوى فى العالم والإقليم اختلفت، لكن دروسه تدق صفارات الإنذار فى المكان حتى لا تتكرر الخطايا القديمة من جديد.
لم يسفر «مؤتمر مدريد» عن شىء، ولا كان واردا أن تلتزم إسرائيل بشىء.
تحدثت فى المباحثات متعددة الأطراف، التى ضمت الوفود العربية (الأردن وسوريا ولبنان) عن التطبيع والتعاون الاقتصادى الإقليمى قبل أن تتحدث فى أية انسحابات يقتضيها الحديث عن السلام!
لم تعترف أن هناك فلسطينيين، أصرت أن يمثلوا ضمن الوفد الأردنى وألا يكون من بينهم أحد من بين أعضاء المجلس الوطنى الفلسطينى، ومع ذلك طرحت القضية نفسها على الرأى العام العالمى بقوة الحقائق.
خشت القيادة الفلسطينية فى تونس من سحب البساط من تحت أقدامها، أو أن تكون هناك قيادة بديلة، فقفزت إلى «أوسلو» من خلف الوفود العربية، وتوصلت إلى أسوأ اتفاق فى التاريخ!
لم يكن ممكنا إجهاض نتائج الانتفاضة الأولى، انتفاضة الحجر، دون اتفاقية «أوسلو».
شىء مقارب قد يحدث الآن بهدف إجهاض انعطافة ما جرى فى الأراضى المحتلة حيث تأكدت وحدة الشعب والقضية بالسلاح والاحتجاج والوجدان على مجمل فلسطين التاريخية والشتات.
فى أول مقاربة للمستجدات العاصفة بدت الإدارة الأمريكية الجديدة بلا خطة عمل محددة، أو أفكار واضحة تقود خطواتها القادمة.
بدت زيارة وزير الخارجية «أنتونى بلينكن» للمنطقة أقرب إلى «عملية استكشاف» لما يمكن أن تطرحه الولايات المتحدة مستقبلا لحلحلة أزمة مزمنة تهدد وتنذر بانفجارات أوسع وأخطر وقد تلحق بإسرائيل هزيمة استراتيجية لا يمكن تحملها.
تضمنت أفكاره الأولية مفارقات وتناقضات يصعب أن تضمها خطة عمل متماسكة تفضى إلى نوع من السلام قابل للحياة.
قال ــ إنه قد جاء للمساعدة فى تثبيت وقف إطلاق النار، وهذا هدف يكاد أن يكون هناك إجماع دولى وإقليمى عليه.
وقال ــ إن بلاده سوف تعمل على بناء منظومة دولية تحشد المساعدات لإعادة إعمار غزة، التى تعرضت منازلها وأبراجها وبنيتها التحتية لأوسع عملية هدم وترويع جراء القصف الهمجى الإسرائيلى، دون إدانة العدوان نفسه، وما ألحقه بالمدنيين العزل نساءً وأطفالا من تقتيل وتشريد حسب تقارير المنظمات الدولية الإنسانية.
كان ذلك تناقضا فى بنية الكلام الدبلوماسى الأمريكى، باسم «حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها»، دون أن يمتد الحق نفسه إلى الضحية المعتدى عليها!
المسألة الإنسانية مهمة، لكن القضية فى البدء والمنتهى قضية تحرر وطنى لشعب رازح تحت الاحتلال.
ثم كان استبعاد حركة «حماس»، التى تسيطر على قطاع غزة المحاصر، من جهود الإعمار، إمعانا فى مجافاة الحقائق على الأرض.
لا يمكن تمرير أية مساعدات عن غير طريقها، كما لا يمكن الحديث عن أى سلام بدون أن تكون طرفا فيه، وإلا فإنه تحليق جديد فى أوهام السياسات والرهانات وانزلاق إلى فشل محتم.
يتبدى عند ذلك المنزلق مفارقة مواقف بين الخارجية الأمريكية وشركائها الأوروبيين، الذين يدعون إلى صيغة حوار غير مباشر عبر مصر ودول عربية أخرى مع «حماس» يمهد لما بعده.
الوزير الأمريكى ألمح للمعنى نفسه، دون أن يذكره بصريح العبارات، عندما دعا لإعادة فتح القنصلية الأمريكية فى القدس حتى يكون ممكنا الحوار مع الفلسطينيين، بينهم «حماس» بالضرورة، دون حاجة إلى السفارة الأمريكية، التى نقلت إلى القدس المحتلة برعاية الرئيس الأمريكى السابق «دونالد ترامب».
كان ذلك نصف إقرار بما ترتب على ذلك النقل من تجاوزات قانونية واستراتيجية فادحة، لكن ما حدث قد حدث ولا تراجع أمريكى عنه.
وقف التصعيد فى القدس كلام دبلوماسى آخر يفتقر إلى أية التزامات تلجم جماعات المستوطنين مدعومين من الأمن الإسرائيلى عن التحرش بالمسجد الأقصى وممارسة التهجير القسرى بحق الفلسطينيين فى حى «الشيخ جراح».
التحرش عاد مجددا عقب توقف العمليات العسكرية وحملات الاعتقال شملت مئات الفلسطينيين فى الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر فى المدن العربية، أو المختلطة.
ما تريده إسرائيل «تعزيز التطبيع»، هكذا بالحرف تحدث «نتنياهو» أمام «بلينكن» فى مؤتمر صحفى مشترك، دون أن يكون مستعدا لدفع أى استحقاق.
باليقين فإن التطورات العاصفة وجهت ضربة مزلزلة لهرولة التطبيع، فلا إسرائيل اليد الطويلة، التى تتحكم فى مصائر المنطقة ــ كما ثبت بميادين المواجهات، ولا هى دولة متماسكة تضمن مستقبلها حيث بدأت ترتفع داخلها تساؤلات عن قدرتها على مواجهة أية أزمات أكثر اتساعا.
الكلام الإسرائيلى عن قدرتها على التصرف بمفردها لمنع حيازة إيران للسلاح النووى يتجاوز قدرة الدولة العبرية، التى بدت فى حالة انكشاف استراتيجى أمام صواريخ المقاومة المسلحة، رغم فوارق القوة والتسليح والقبة الحديدية، التى عجزت عن الحد من خطورتها.
بصورة أو أخرى فإن حركة الحوادث مرشحة لإعادة استنساخ «مؤتمر مدريد»، الذى عقد خريف (1991)، أحاديث عن السلام دون أن يكون هناك سلام، أو شبه سلام، واستهلاك ما تحقق فى المواجهات الأخيرة داخل سراديب لا تعرف أولها من آخرها، بلا آليات تفاوض معلنة وجداول زمنية ملزمة ومرجعيات دولية تحترم.
الأجواء الدولية والإقليمية، التى استبقت «مؤتمر مدريد»، تكاد تتلخص فى ثلاثة تطورات جوهرية:
الأول، تصدع جوهرى فى بنية النظام العربى بعد اجتياح الكويت وحصار العراق وعزله تمهيدا لضربه وتقسيمه.
كان ذلك داعيا ــ بعد اتفاقية كامب ديفيد وخروج مصر من الصراع العربى – الإسرائيلى ــ إلى محاولة إنهاء الصراع نفسه بنوع من السلام لا يؤسس دولة على أرض، أولها سيادة على قرار.
الثانى، تصدع الاتحاد السوفييتى السابق بعد سقوط جدار برلين وانهيار المنظومة الاشتراكية وجناحها العسكرى حلف «وارسو» وهيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولى بمفردها.
لم يكن للاتحاد السوفييتى، وهو يحتضر، أية أدوار باستثناء جلوس ممثليه على منصات المؤتمر!
الثالث، انهيار نظام الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا بأجواء ما بعد الحرب الباردة، وكان ذلك داعيا إلى محاولة أن تكون هناك مقاربة مماثلة فى الصراع الفلسطينى – الإسرائيلى.
فى الأحوال المستجدة الولايات المتحدة ليست وحدها، كما كان الحال فى «مدريد».
على الأغلب سوف يسند إلى الرباعية الدولية (الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبى والأمم المتحدة) مهمة الدعوة إلى حوار يستأنف مباحثات السلام.
روسيا الطموحة تحاول أن تتمركز فى قلب تفاعلات الشرق الأوسط، والاتحاد الأوروبى يحاول أن يبحث عن أدواره ومصالحه قريبا من الولايات المتحدة لكن ليس داخل عباءتها، والصين المنافس القوى على زعامة النظام الدولى الجديد تنظر إلى ما قد يحدث ودورها فيه.
المعضلة الكبرى فى أحاديث السلام المنتظرة أن العالم العربى ممزق ــ مشرقه النار مشتعلة فيه ومغربه منكفئ على نفسه، فيما القلب مصر تحاول ترتيب أولوياتها وقضية سد النهضة تضغط على أعصابها.
على الجانب الآخر فإن القيادة الإسرائيلية الحالية لا تقبل بـ«حل الدولتين» ويستحيل عليها تقبل «فكرة الدولة الواحدة»، ليست مستعدة أن تتنازل عن أى شىء.
فى «مؤتمر مدريد» كان «نتنياهو» متحدثا رسميا باسم الوفد الإسرائيلى، الذى لم يكن رئيسه «إسحق شامير» مستعدا أن يقدم أدنى تنازل حتى لو استمر الفلسطينيون فى التفاوض لعشر سنوات، كما يروى فى مذكراته وزير الخارجية المصرى بذلك الوقت «عمرو موسى».
السياسة نفسها سوف تتبع هذه المرة إذا ما قدر أن يلتئم مؤتمرا مماثلا.
فى «مؤتمر مدريد» اكتسب التمثيل الفلسطينى شرعيته من منظمة التحرير الفلسطينية، رغم ما أبدته قيادتها من حساسيات مفرطة لا لزوم لها، هذه المرة قضية الشرعية تطرح نفسها بإلحاح غير مسبوق.
الشرعية تستدعى وحدة سياسية فلسطينية، كما التنبه إلى عدم الوقوع مجددا فى الأفخاخ القديمة.