اغتيال عملية السلام

إيهاب وهبة
إيهاب وهبة

آخر تحديث: الجمعة 26 يونيو 2009 - 6:32 م بتوقيت القاهرة

 كما تمكن يجال أمير الطالب بجامعة بار إيلان من اغتيال اسحق رابين عام 1994، نجح بنيامين نتنياهو عام 2009 من على منبر نفس الجامعة الحاضنة لليمين المتطرف فى إسرائيل، فى القيام بعملية اغتيال أخرى، ولكن الضحية هذه المرة كانت عملية السلام برمتها.

ولا أبالغ فى هذا القول إذا دققنا النظر فى كل ما قاله بالجامعة المذكورة. وأبدأ بحديثه عن «السلام الاقتصادى» أى إقامة مشروعات مشتركة مع الدول العربية، وقيام العرب بالاستثمار فى إسرائيل باعتبار أن ذلك يمثل عنصرا مهما فى تحقيق السلام السياسى! نتنياهو بهذا قد وضع العربة أمام الحصان، التطبيع قبل التسوية. قلب المبادرة العربية رأسا على عقب. العرب قد قبلوا بالفعل منذ عام 2002 إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل، لكن ليس مقدما ولا بالمجان، إنما بعد أن توفى إسرائيل بكل الالتزامات المطلوبة منها.

ثم لننتقل إلى ما قاله رئيس وزراء إسرائيل عن «حدود» الدولة العبرية. لم يمل الرجل من الحديث عن أرض إسرائيل التاريخية، أرض الآباء والأجداد، يهودا والسامرة. للإنصاف لم يتجاهل الفلسطينيون..غير أنه اعتبرهم مجتمعا يعيش «داخل» هذه الأرض. فبيت القصيد هنا أن فلسطين بأكملها هى أرض إسرائيل وهناك «مجتمع» من الفلسطينيين شاء حظ إسرائيل السيئ أن يتواجدوا على جزء من هذه الأرض. لم يكتف نتنياهو بذلك، بل قال إن إسرائيل فى حاجة إلى حدود يمكن الدفاع عنها defensible borders (وفقا للترجمة الإنجليزية عن العبرية) وهو تعبير دخيل تماما على ما جاء بالقرار242 الذى نص على انسحاب إسرائيل إلى حدود آمنة ومعترف بها، أى حدود يمكن تأمينها بترتيبات معينة مثل القوات الدولية أو المناطق منزوعة السلام..الخ، على أساس أن القرار ذاته قد نص على مبدأ عدم جواز الاستيلاء على الأراضى عن طريق القوة أى لا يترك الأمر لإسرائيل لترسم حدودها وفقا لهواها وما ترى أنه يمكن الدفاع عنه أو لا يمكن.

اتصالا بذلك علينا أن نحاول معرفة أسباب إصرار رئيس الوزراء الإسرائيلى على ضرورة اعتراف الفلسطينيين «بكل وضوح وبدون أى مواربة بإسرائيل كدولة للشعب اليهودى». ألم يكن كافيا أن تعترف منظمة التحرير الفلسطينية رسميا فى اتفاقيات أوسلو لعام1993 بحق إسرائيل فى الوجود؟ عندما صدر قرار التقسيم رقم181 لعام1947 تحدث عن دولة يهودية ودولة عربية، وعندما أصدر زعماء إسرائيل بيانهم بإعلان الدولة فى 14 مايو 1948 قالوا إن هذه الدولة اليهودية سيطلقون عليها اسم إسرائيل. فما هو سبب تمسك نتنياهو بعد 61 عاما من هذا الإعلان بيهودية الدولة؟ لحسن الحظ أنه كشف فى نفس الخطاب عن الهدف الحقيقى من وراء ذلك بالقول بأن توطين اللاجئين الفلسطينيين داخل إسرائيل سيكون كفيلا بالقضاء على استمرارية بقاء إسرائيل كدولة للشعب اليهودى! فالأمر يتعلق إذن بضرورة حرمان أى فلسطينى من العودة إلى إسرائيل حفاظا على نقاء الدولة اليهودية، وفى نفس الوقت العمل بقدر المستطاع على التخلص من عرب إسرائيل الذين يعتبرهم وزير الخارجية العنصرى ليبرمان شوكة فى جانب إسرائيل عليها تهجيرهم للخارج إذا لم يقسموا قسم الولاء للدولة اليهودية. من المهم هنا أن نؤكد أن قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين إحداهما عربية والأخرى يهودية نصّ على ضرورة تمتع الفلسطينيين المقيمين فى دولة إسرائيل بكل «الحقوق المدنية والسياسية» بل إن إعلان قيام دولة إسرائيل الذى قُبلت على أساسه عضوا بالأمم المتحدة نص على «ضمان المساواة الكاملة فى الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع السكان بصرف النظر عن الديانة أو العرق أو الجنس». فاعتراف العرب والفلسطينيين بيهودية دولة إسرائيل كما تطالب الأخيرة، لن يعطيها الحق فى تهجير العرب إلى خارجها وإلا تكون قد انتهكت التزاماتها الدولية.

ويرتبط ذلك بالطبع بقضية عودة اللاجئين. يقول نتنياهو إن عودة اللاجئين لابد أن تتحقق بعيدا عن إسرائيل، أى فيما سيتبقى من الضفة الغربية بعد استقطاع الأراضى التى أُقيمت عليها الكتل الاستيطانية، أو فى الدول المستضيفة للاجئين حاليا. مثل هذا الموقف ينتهك تماما قرار الجمعية العامة رقم194 لسنة 1948 الذى يقضى بعودة اللاجئين إلى ديارهم أى التى تقع داخل إسرائيل. ولابد من الإشارة هنا إلى أن قرار قبول إسرائيل عضوا فى الأمم المتحدة عام1949 صدر على أساس تعهد إسرائيل بتنفيذ القرار المذكور، أى التعهد بعودة اللاجئين إلى ديارهم، بالإضافة إلى التعهد بتنفيذ قرار التقسيم الذى سبق أن أشرت إليه.

ويعلم نتنياهو يقينا أن توطين اللاجئين فى البلاد المستضيفة أمر يرفضه الفلسطينيون ويرفضه العرب، ومجرد التلويح بمثل هذا التوجه يمكن أن يفجر أزمات داخلية خطيرة داخل هذه البلاد.

عودة مرة أخرى إلى موضوع الدولة الفلسطينية ليس فيما يتعلق بحدودها هذه المرة، إنما فيما يتعلق بمقوماتها وعناصرها التى سلبها تماما رئيس وزراء إسرائيل. معروف أن العناصر اللازمة لقيام الدولة هى بالإضافة إلى السيادة، الشعب والإقليم والتنظيم السياسى. وفى هذا المقام يصرخ نتنياهو بأعلى صوته بأن إسرائيل لا يمكنها أن تقبل مقدما بمبدأ قيام الدولة الفلسطينية دون وجود ضمانات كافية بأن هذه الدولة ستكون منزوعة السلاح، وبدون جيش، وليس لها السيطرة على مجالها الجوى، ولا يحق لها الانضمام إلى أحلاف عسكرية، ولا يتم تهريب السلاح إليها. نتنياهو ألغى تماما مفهوم السيادة عن الدولة كما ألغى عنصر الإقليم لأن الفلسطينيين يعيشون على أرض هى فى الواقع جزء من أرض إسرائيل اليهودية! ومن المهم عقد مقارنة بين ما يقوله نتنياهو خاصا بالدولة الفلسطينية وبما ارتضاه المجتمع الدولى متمثلا فى الأمم المتحدة، وخريطة الطريق لعام 2003، وتفاهمات أنابوليس 2007. فكلها تشترط أن تكون الدولة الفلسطينية قابلة للعيش، متواصلة الأجزاء، وذات سيادة، ومستقلة، وديمقراطية. أين هذه المقومات الأساسية من أوصاف نتنياهو وشروطه لقيام ما سماه بدولة فلسطين؟

أما القدس التى لا تعترف بها الدول كعاصمة لإسرائيل ولا تقيم سفاراتها فيها، فقد قال عنها نتنياهو أنها يجب أن تبقى العاصمة الموحدة لإسرائيل. القدس كما نعلم لها وضعها الخاص وفقا لقرار التقسيم، وأكدت جميع الوثائق بعد ذلك بما فى ذلك اتفاقيات أوسلو وخريطة الطريق أن قضية القدس يجب أن تكون من بين قضايا مفاوضات الوضع النهائى. فضلا عن أن القرار 242 الذى يقضى بالانسحاب يسرى على القدس الشرقية التى احتلتها إسرائيل بعد الخامس من يونيو1967.

بقى موضوع المستوطنات التى ذكر رئيس الوزراء بصددها أنه ليس لديهم نية فى بناء مستوطنات جديدة أو مصادرة أراض إضافية من أجل المستوطنات القائمة، مضيفا أنه مع ذلك هناك حاجة إلى تمكين المقيمين فى هذه المستوطنات من ممارسة حياتهم الطبيعية. تعابير ملتوية ومبطنة تكشف عن الإصرار على التوسع فى المستعمرات تحت مسمى النمو الطبيعى. أكد هذا أيضا وزير الخارجية ليبرمان عندما اجتمع مع وزيرة الخارجية الأمريكية فى واشنطن يوم 18 يونيو. هناك فارق ضخم بين ما قاله نتنياهو حول المستوطنات وما قضت به خريطة الطريق لعام 2003 من ضرورة قيام إسرائيل «بتجميد كل النشاط الاستيطانى بما فى ذلك النمو الطبيعى للمستوطنات». كما تجاهل ما أعلنه أوباما فى خطاب القاهرة «من عدم مشروعية استمرار المستوطنات الإسرائيلية، وأن عملية البناء هذه تنتهك الاتفاقيات السابقة».

غير أن أكثر ما يقلق هو ما سبق لبوش الابن أن قاله وضمّنه فى خطاب إلى شارون فى 14 أبريل 2004 من أنه «فى ضوء الحقائق الجديدة على الأراضى المتمثلة فى الكتل الاستيطانية الكبرى، فإنه من غير الواقعى أن نتصور انسحابا إسرائيليا كاملا إلى خطوط الهدنة لعام 1949، والأكثر واقعية هو إحداث تعديلات متفق عليها تعكس هذه الحقائق الجديدة». بمعنى آخر أراد بوش أن يقايض الأراضى الفلسطينية التى أقيمت عليها هذه الكتل الاستيطانية بأراض داخل إسرائيل تردد أنها تقع فى صحراء النقب. هذا الإعلان من جانب بوش ما زال قائما ومن المؤكد أن حكومة نتنياهو ستبرزه فى وجه الحكومة الأمريكية فى أى وقت شاء.

لاشك أننا جميعا شعرنا بالصدمة والإحباط تجاه ما صدر من الولايات المتحدة وبعض القادة فى أوروبا من ثناء على ما جاء فى خطاب نتنياهو خاصا بالدولة الفلسطينية، واعتبار ذلك خطوة للأمام. والواقع أن ما قاله بالنسبة لكل القضايا كما أوضحت سابقا، بما فى ذلك القيود المخلة بأبسط مقومات السيادة للدولة الفلسطينية، يمثل ردّة كبرى وتراجعا ضخما عن كل ما تضمنته القرارات والاتفاقيات والمرجعيات الخاصة بعملية السلام. لا يحتاج الخطاب إلى ثناء إنما يتطلب الاستنكار والإدانة.

لا يمكن للدول العربية أن تترك ما تفوه به نتنياهو ليمر دون اتخاذ إجراءات وخطوات فى مختلف المحافل الدولية ابتداء بجامعة الدول العربية، إلى جانب اللجوء إلى الأمم المتحدة ومجموعة دول عدم الانحياز التى ستستضيف مصر مؤتمرها الشهر القادم، وذلك من أجل فضح النوايا الحقيقية من وراء هذه التصريحات والمواقف، والتأكيد على انتهاكها المتعمد للقرارات الدولية. وجاءت مقالة السيد الرئيس التى نُشرت على صفحات جريدة «وول ستريت جورنال» يوم19 يونيو كتعبير واضح عن موقفنا الذى لا يقبل المساومة، سواء فيما يتعلق بالانسحاب الكامل، أو حدود الدولة الفلسطينية ذات السيادة والمتواصلة فى أراضيها، أو ضرورة التوقف عن الاستيطان الذى أدى بشكل خطير إلى تآكل فرص التوصل إلى حل الدولتين، إلى جانب التأكيد على أن التطبيع يمكن أن يتحقق فقط كنتيجة للتوصل إلى التسوية الشاملة على جميع الجبهات.

كما يقتضى الأمر حمل الأطراف الخارجية من بينها الاتحاد الأوروبى على الضغط على إسرائيل بكل الوسائل كى تتراجع عن موقفها. جدير بالذكر أن الاتحاد الأوروبى قد قام بتجميد الاتصالات بين الاتحاد وإسرائيل التى كانت تستهدف الارتفاع بمستوى العلاقات بين الجانبين فى الميادين الدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية وذلك بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة فى يناير2009. ثم أكد المسئولون فى الاتحاد الأوروبى فى نهاية شهر أبريل الماضى أن هذا التجميد سيستمر حتى تؤكد الحكومة الإسرائيلية الجديدة التزامها بالاستمرار فى عملية التفاوض مع الفلسطينيين.

وإذا ما صحت التوقعات بأن الولايات المتحدة على وشك الخروج بتصور للسلام فى المنطقة مع نهاية يوليو القادم، فإن الأمر يحتاج أيضا إلى تحرك عربى سريع وفعال لمنع أى تآكل فى موقف الإدارة الأمريكية تحت ضغوط اللوبى الإسرائيلى والكونجرس المتعاطف مع إسرائيل، إذ إن مثل هذا التآكل سيبعدنا بدلا من أن يقربنا من تحقيق السلام المنشود.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved