نهاية حلف الأطلسى؟
محمد السماك
آخر تحديث:
الأحد 26 يونيو 2011 - 9:22 ص
بتوقيت القاهرة
أعطى قرار مجلس الأمن الدولى الضوء الأخضر لعمل عسكرى فى ليبيا بموجب القرار رقم 1973 بهدف حماية المدنيين الليبيين. ولكن هؤلاء المدنيين لا يزالون يُقتلون حتى اليوم. فقوات القذافى تقتل العشرات منهم يوميا. والقوات المناوئة له تقتل العشرات من أنصاره. وطيران حلف الأطلسى يقتل العشرات من الفريقين.. «عن طريق الخطأ»!
لم يستطع القذافى انقاذ نظامه.
ولم يستطع خصومه إسقاطه. وفشل حلف الأطلسى فى تغيير الوقائع على الأرض. وهذا يعنى أن الترجمة العملية لاستمرار الوضع الراهن تناقض ما قرره مجلس الأمن الدولى وهو وقف قتل المدنيين.
من هنا كان المدخل إلى البحث عن تسوية سياسية. وتحمل لواء العمل على التسوية القوى الأوروبية ذاتها التى تولّت عملية القصف العسكرى. تؤكد هذه التطورات المتلاحقة على المسرح الليبى، أمرين أساسيين. الأمر الأول هو أن القوة العسكرية عاجزة عن حل الصراعات السياسية. أما الأمر الثانى فهو أن المجموعة الأوروبية ــ وخلافا للولايات المتحدة ــ فقدت الشهية لاستخدام القوة العسكرية أداة من أدوات العمل على تغيير النظام، أى نظام معادٍ لها.
وفى ضوء هذين الأمرين فإن السؤال الذى يفرض نفسه هو أى مستقبل ينتظر حلف شمال الأطلسى الذى يشكل العمود الفقرى للتحالف عبر الاطلسى بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى؟ منذ انتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين وتمزق الاتحاد السوفييتى السابق، قام الحلف الأطلسى قبل التدخل فى ليبيا بمهمتين فقط. الأولى فى صربيا، والثانية فى أفغانستان. لقد أدت معارضة فرنسا وألمانيا للحرب الأمريكية على العراق إلى عدم تورط الحلف الأطلسى فى تلك الحرب. مما حمل إدارة الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش إلى إيجاد بديل آخر تمثل فى إقامة «تحالف عسكرى خاص» بالحرب على العراق شمل دولا من خارج حلف الأطلسى بما فيها عدد من دول أوروبا الشرقية، وحتى استراليا.
وخلافا لذلك فإن الدول الأوروبية الأعضاء فى الحلف لم تتردد كثيرا فى المشاركة فى مخطط قصف صربيا على خلفية جرائم الحرب التى ارتكبتها قواتها فى البلقان وعمليات التطهير العرقى التى مارستها فى البوسنة ــ الهرسك على نطاق واسع. فقد اعترف الاتحاد الأوروبى أن هذه الجرائم هى الأسوأ منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأن السكوت عليها وتغطية القائمين بها يشجع على ارتكاب المزيد ربما فى مناطق أخرى من القارة. فكان قرار المشاركة فى استخدام القوة العسكرية فى عام 1999 لحمل بلغراد على الرضوخ للإرادة الدولية بوقف المجازر، والانسحاب من كوسوفا التى أعلنت استقلالها، وبتسليم مجرمى الحرب إلى العدالة الدولية، وكان آخرهم الجنرال مالديتش.
كذلك لم تتردد دول الحلف فى الانضمام إلى الجهد الحربى الذى تبذله الولايات المتحدة فى أفغانستان. ذلك أن الجرائم التى ارتكبها تنظيم القاعدة والذى وفرت له أفغانستان فى ظل حكم طالبان ملاذا آمنا، طالت العديد من الدول الأوروبية الاعضاء فى الحلف (مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا واسبانيا) كما طالت الولايات المتحدة منذ 11 سبتمبر 2001.
أما فى ليبيا فقد كان الأمر مختلفا. صحيح ان العقيد القذافى لا يتمتع باحترام لدى أى من دول الحلف، وصحيح ايضا أنه متهم بالمسئولية عن جرائم إسقاط ثلاث طائرات مدنية واحدة فوق لوكربى باسكوتلندة واثنتان فوق افريقيا، وصحيح كذلك انه متهم بالمسئولية أيضا عن جرائم تفجير وقعت فى ألمانيا، إضافة إلى اتهامه بتصفية خصومه السياسيين داخل ليبيا وخارجها، الا ان ذلك لم يكن يشكل مبررا كافيا بنظر ألمانيا تحديدا لعمل عسكرى مباشر ضده.
ولو لم تشارك الولايات المتحدة فى قصف المواقع التابعة للعقيد القذافى باسم حلف شمال الأطلسى لما استطاعت فرنسا وبريطانيا وايطاليا أن تحقق حتى الحد الأدنى مما تم تحقيقه حتى الآن. وربما يعود ذلك إلى سببين. الأول هو ان الولايات المتحدة تعتبر نفسها قوة عالمية، وبالتالى فانها تعطى نفسها مسئولية التدخل على طريقتها العسكرية فى أى منطقة من العالم. الأمر الثانى هو أن المجموعة الأوروبية تعتبر نفسها قوة اقليمية، وبالتالى فإن تدخلها لا يكون الا عند الضرورة القصوى والاستثنائية كما هو الحال بالنسبة لأفغانستان. وإذا كانت الولايات المتحدة تتمتع بحماية طبيعية لوقوعها بين المحيطين الأطلسى والباسيفيكى، فان أوروبا تعتبر أن الأساس الذى تقوم عليها حمايتها هو أن يكون لها جيران مسالمون ومتعاونون. وهو ما تسعى إلى تحقيقه مع روسيا شرقا، ومع العالم العربى جنوب المتوسط.
ولأنها نجحت فى ذلك إلى حد كبير، فانها لم تعد ترى ضرورة لانفاق المبالغ فيه على التسلح. ذلك ان خمس دول فقط من بين الدول الثمانى والعشرين الذين يتألف منها حلف الأطلسى تنفق نسبة الاثنين بالمائة من دخلها القومى التى قررها الحلف على التسلح.
وهذه الدول الخمس هى فرنسا وبريطانيا واليونان وألبانيا، إلى جانب الولايات المتحدة. ومنذ سقوط جدار برلين فى عام 1989، وخلافا لما كان متوقعا، فان واشنطن رفعت من ميزانيتها العسكرية بنسبة 75 بالمائة، وذلك بالرغم من الصعوبات الاقتصادية التى تواجهها، وبالرغم من أعباء الديون الخارجية التى ترهقها.
هذا التباين الكبير فى تحمل الأعباء المالية، والمسؤوليات العسكرية رسم علامة الاستفهام الكبيرة حول مستقبل الحلف. فالجيل الأمريكى الذى عاش الحرب العالمية الثانية قد زال أو هو فى طريقه للزوال. والأولويات الأمريكية تغيرت، مع تغير الحسابات السياسية ومع تبدل مواقع الصراع.
وهناك توجه أمريكى متنامٍ لتحميل أوروبا مسئولية أمنها المباشر، لاتقاء شرارات الأوضاع غير المستقرة فى العديد من الدول المجاورة لها من جنوب المتوسط (وخاصة دول المغرب العربى) إلى شرق أوروبا (القوقاز وأوكرانيا) إلى شمال أوروبا (روسيا البيضاء) إلى وسط أوروبا (البوسنة ومولدافيا).
لقد كشفت حملة حلف الأطلسى على ليبيا مدى محدودية القدرات العسكرية التى تتمتع بها الدول الأوروبية الأعضاء فى الحلف. حتى إن هذه الدول أعربت عن عدم قدرتها على مواصلة القصف خوفا على مخزونها من الذخيرة !!.. ولولا المشاركة الأمريكية فى هذه العمليات لكان الحلف أقل نجاحا حتى فى المحافظة على التوازن فى الأوضاع بين جناحى بنغازى وطرابلس.
فتح هذا الأمر الباب أمام الدبلوماسية لمعالجة «الأزمة الليبية» بعد أن كانت قد استبعدت كليا لمصلحة الحسم العسكرى. ولكن الحسم الذى فشل فى ليبيا فشل أيضا فى أفغانستان. فالولايات المتحدة التى تقود قوات حلف الأطلسى هناك (140 ألف جندى بينهم 100 الف جندى أمريكى) باتت ميالة إلى الحل الدبلوماسى مع حركة طالبان. وهو ما شجعتها عليه الدول الأوروبية، ليس حبا بطالبان، ولكن رغبة فى الانسحاب من أفغانستان. حتى ان الانسحاب بحد ذاته أصبح الهدف الأسمى وتجسيدا للانتصار.
لقد قام حلف شمال الأطلسى أساسا ليكون الذراع العسكرية للتحالف الغربى (الولايات المتحدة وأوروبا) فى مواجهة الاتحاد السوفييتى وحلف وارسو. أما الآن وقد أصبح الاتحاد السوفييتى من التاريخ.. وانضم عدد من أعضاء حلف وارسو إلى حلف الأطلسى.. فأى معنى يبقى لهذه الذراع العسكرية؟ وضد من توجه هذه الذراع؟.. ضد القذافى فى ليبيا؟.. أو ضد طالبان فى أفغانستان؟.