الدكتور أحمد الطيب.. وليس يرجم إلا ما له ثمر
ناجح إبراهيم
آخر تحديث:
السبت 27 يونيو 2020 - 1:34 م
بتوقيت القاهرة
الدكتور أحمد الطيب هو سليل الشرف، فجده الأكبر الطيب هو ابن أحمد عبيد الذى قام بثورة فى الصعيد عندما وهب محمد على أراضى الصعيد الخصبة للمماليك الذين تصالح معهم وقادة الألبان والجراكسة، وحول الفلاحين إلى خدم وعبيد لهم، ولكن محمد على قهر هذه الثورة فهرب أحمد عبيد إلى العراق وأنجب هناك الطيب «الجد الأكبر» للعائلة والذى عاد إلى قنا وعاش فى كنف شيخ صوفى صالح اسمه «سليمان بن تقادم» واعتزل السياسة وزهد فى الدنيا واهتم بخدمة الناس فقط.
وبعد موت محمد على عاد أحمد عبيد وأنشأ قرية البغدادية، ثم ثار الطيب الجد على اليونانيين الذين تملكوا الأراضى فى الصعيد وأفسدوا هناك وكان ذلك فى عهد الخديوى إسماعيل الذى قضى على الثورة بعنف وقسوة، وأسر 1400 فلاح قطع رءوسهم بالفئوس فى منظر مأساوى حزين حتى سميت لذلك ثورة الفئوس، ليرضى اليونانيين والأوروبيين، ففر «الطيب الجد» إلى اليمن وحارب الإنجليز هناك حتى سلمه سلاطين اليمن للإنجليز فقتلوه وهكذا كرر الطيب الجد مسيرة والده الثائر أحمد عبيد وقد أوردت هذه القصة الليدى لوسى داب جوردون التى كانت تعيش فى هذه المنطقة وقت هذه الثورات.
من هذا الأصل الأسرى العظيم المشحون برفض الظلم والبغى من جهة والزهد والتصوف وإيثار الآخرة على الدنيا من جهة أخرى، هذا هو الرافد الذى استقى منه شيخنا أ.د/ أحمد الطيب روافده وجيناته المشحونة بالصمت العميق والعفة والتعفف عن الدنايا والحطام الزائل فضلا عن التبحر فى الدين وعلومه المختلفة والاهتمام بإصلاح الظاهر قبل الباطن وأخذ النفس بالعزمات الإيمانية والحياتية.
لقد كان أول قرار لشيخنا بعد توليه سدة الإمامة على الأزهر رفض عقد قران الأكابر وأولادهم فى المشيخة على يد الإمام، حتى لو كانت تدر على الشيخ الملايين شهرا، وعلى موظفى المشيخة الكثير والكثير من الهبات والعطايا وما أدراك ما عطاء الكبار والمليونيرات فى حال فرحتهم بزواج أولادهم، خسر الشيخ الجديد الملايين شهريا، ولكنه ربح نفسه وأعلى قدر الأزهر.
أما القرار الأجرأ فهو التخلى عن راتبه وبدلاته جميعا رغم أنه فى منصب يوازى نائب رئيس وزراء، وأمعن فى الزهد حينما أعاد كل المرتبات التى أخذها قبل ذلك، وأتحدى أى صحفى أو إعلامى يتطاول على شيخ الأزهر الطيب أن يعمل عاما واحدا دون مرتب.
د/ الطيب هو أول شيخ فى تاريخ الأزهر كله يعمل دون مرتب، ولا يستخدم سيارة الدولة حينما يكون فى إجازته فى الأقصر ويستخدم سيارته العتيقة التى يرفض أصغر مسئول فى الدولة أن يستخدمها.
وهو أول شيخ فى الأزهر يرفض هدايا الملوك، ويأبى أخذها، وما أدراك ما هدايا الملوك، منحه ملك الأردن شيكا يوازى الملايين فرفض بإباء، حتى اقترح مع رئيس الديوان أن تبنى الأردن إحدى كليات الجامعة بهذا المبلغ دون أن يستلمه الشيخ، ورفض هدايا تقدر بالملايين من أمراء فى الخليج رفضها دون تردد وبحسم نادر.
د/ أحمد الطيب حمل على عاتقه أن يجعل الأزهر خادما للدين والوطن، وليس خادما لحزب أو فصيل أو مليونير أو جماعة أو حكومة، وقد أيد د/ الطيب كون شيخ الأزهر بالانتخاب من هيئة كبار العلماء وليس بالتعيين من رئيس الجمهورية.
الطيب جعل الأزهر مستقلا فلا هو خادما لأحد حتى لو كانت الحكومة ولا سائرا فى ركاب أحد وليس ضد أحد فى الوقت نفسه، فهو يدور فى فلك الدين والوطن، ولا يدور فى فلك أحد، ولا يصطدم بأحد فى نفس الوقت ولا يكره أحدا بعينه فهو يكره الخطأ والفسق والكفر ويحب المخطئ ويحنو عليه لأنه إنسان فى البداية والنهاية.
لقد رفض د/ الطيب أن يجره البعض إلى معارك جانبية تصرف الأزهر عن عظمة الرسالة التى يحملها، شتمه شباب الإخوان عاما كاملا وكتبوا كثيرا من الشعارات المسيئة على جدران جامعته، فأبى أن يشتمهم كما شتموه، أو أن ينزل من علياء الأدب الراقى والخلق النبيل إلى دوامة الإسفاف والتبذل.
هاجمه بعض المعروفين بنفاق كل ذى سلطة ومال فغرهم حلم الأزهر فامتطوا صهوة شجاعة كاذبة خاطئة فلم يجدوا رجلا عفيفا متسامحا سوى الشيخ فسلقوه بألسنة حداد، ولكنه لم ينجر إلى معاركهم الكلامية، بل أثبت لهم بفعله أنه أكبر منهم وأنه بعلمه الدءوب وفكرة العميق سيهزم كل الأقزام الذين تطاولوا عليه.
أخرج خمس وثائق فكرية رائعة لم ينتجها الأزهر من قبل، كانت نتاجا لمؤتمرات جمعت أقوى النخب الفكرية، وهذه الوثائق لو طبقت فى مصر والعالم العربى لكفتها.
ولو لم يكن فى تاريخ د/ الطيب سوى موقفه العظيم من القدس لكفى، فالمؤتمر العالمى الوحيد الذى عقد نصرة للقدس هو مؤتمر الأزهر وهو الوحيد الذى جمع فيه الشيخ أصحاب الديانات الثلاث الكبرى لنصرة قضية جامعة مثل القدس.
ويكفى أنه رفض مع البابا تواضروس استقبال نائب الرئيس الأمريكى مايك بنس عقب القرار الاحمق لرئيسه ترامب بنقل سفارة بلاده إلى القدس.
أما مواقفه من رفض التطرف والإرهاب فمعروفة للعيان,ويكفيه وثيقته مع البابا يوحنا بابا الفاتيكان للإخوة الإنسانية، ولو جاءت من غيره لرفعوه فوق الأعناق,ولكنها جاءت من الشيخ الذى يتنكر الكثيرون لفضله.
إنه رمز الوسطية لا يريد لمصر أن تكون موطئا للتكفير والغلو والتفجير ولا يريدها أيضا علمانية تكره الدين، لا يريدها تكفيرية ولا يريدها راقصة متحللة فاسدة.
إنه يريدها تحمل وسطية الإسلام واعتداله، تبشر ولا تنفر، تجمع ولا تفرق، تهدى ولا تكفر، ترحم ولا تقسو، تحى ولا تقتل، تجدد الدين ولا تبدده.
مواقف كثيرة للإمام الطيب الذى أحببناه بصدق، والذى لا يملك سوى الدين الصحيح ليهبه للآخرين، ولا يصنع مثل آخرين يوزعون الأموال على البعض لتلميعهم يوميا.
هكذا كان الإمام وهكذا أحببناه فى الله، فليس لديه ذهب المعز ولا سيفه، ولا يملك من حطام الدنيا شيئا ليشترى ثناء الناس، هو يريد وجه الله وحده.
إنه الحب الجارف الحقيقى من العقلاء والحكماء لإمام حكيم عطوف زاهد ورقيق، أما فى الحق فله صولة الأسود.
سلام على د/ أحمد الطيب وهو يقضى عامه العاشر وهو فى سدة المشيخة، وسلام على كل من يخدم الدين والوطن بصدق وتجرد.