عته اجتماعى.. Social Dementia
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 26 أغسطس 2015 - 6:15 ص
بتوقيت القاهرة
مقابلة تسللت منها إلى عالم الكبار جدا، وكنت شابا يافعا. كنت مثل كل الصغار أطالب السنين بأن تمر سريعا فأجد نفسى رجلا بين الرجال الكبار. كان الكبير «جدا» يعنى بالنسبة لى شخصا حكيما ووقورا وهادئا. هكذا تخيلت نفسى عندما أكبر وأصل إلى سن متقدمة. لا أظن أننى حرمت خيالى من أن يضع فى يدى عصا أحركها فى الهواء ببراعة أو أظهر وكأننى أعتمد عليها فى مشيى أو جلوسى. كنت أسمع أو أتصور أن الرجل فى هذا العمر لابد أن يكون مرتديا ثيابه كاملة وحذاؤه لامعا وبعض المنديل متدل من جيب جاكتته. تخيلته يتحدث بصوت خافت ونبرة متزنة، وعندما ينفض المجلس ويخلو المكان تمتد يده إلى مفتاح المذياع ليقضى مع الموسيقى الغربية ساعة زمن أو أطول.
***
بعد المقابلة تغيرت تصوراتى عن الكبار. أما المقابلة فوقعت بعدما تلقيت رسالة من زوجة صديق كان يكبرها بعدد غير قليل من السنوات تطلب منى زيارتها هى وابنتيها، قبل أن ينضم صديقى إلينا فيما بعد.
جلست لمدة ساعة مستمعا ولكن غير مستمتع، مهتما ولكن غير مصدق بعض ما أسمعه وغير فاهم تماما لبعض آخر.. يتكلمن ويتوقفن فأستزيدهن . اجتمعن بروايات عديدة على شكوى واحدة، هى اكتشافهن بعد عقود من المعاشرة أن رب البيت لا يطاق، واحتياجهم أن يتدخل أصدقاؤه لإقناعه بتغيير تصرفاته وإلا انفرطت العائلة.
***
قيل بين ما قيل لى إنه يقضى ساعات طويلة فى موقعه الأثير لديه لا يتحدث إلى أحد، ولكن حين يتحدث فكلماته رصاص فتاك وإهانات جارحة واتهامات صارخة. قالت الصغيرة، صدقنى يا عمى، أسمع منه عبارات لا ينطق بها إلى السوقة فى الأزقة، أسمعهم كل يوم وأنا أجرى بحثى الميدانى عن سلوكيات العشوائيين وعن سلوكيات سكان العشوائيات، عبارات أخجل أن أرددها على مسامعك وفى حضور أمى وشقيقتى. أكثرها، كما أكدت شقيقتها ووالدتها، عبارات مشتقة من أسماء وأوصاف النصف الأسفل من جسم الإنسان ابتداء من موقع الحزام وانتهاء بأصابع القدمين، لم يسبق لإحداهن أن سمعت «رب الدار» ينطق بها أو بمثيلاتها من الكلمات والألفاظ.
***
أنهى الصديق ما كان يقوم به فى غرفة مجاورة وانضم إلينا. جلس هادئا ووديعا يتبادل معى التحيات المناسبة والذكريات المشتركة، الأمر الذى شجع النساء على إخلاء القاعة وتركنا بمفردنا.. انتهزت الفرصة لأقترب بحذر شديد من حديث الشكوى فإذا به يرد الشكوى بشكوى. قال، «أنت مازلت أصغر من أن تقدر ما يمر به رجل فى مثل عمرى». الرجال وقد بلغوا ما بلغته من العمر يعتقدون أنهم أدوا واجبهم كاملا. أدوا الواجب تجاه الوطن وتجاه الزوجة وتجاه الأبناء والبنات والأصدقاء والصديقات. «الكبار مثلى يحلمون بأيام ناعمة، لا أحد يطلب منهم شيئا أو يكلفهم بواجب. أحيانا تأتى الزوجة لتذكرنى بواجب عزاء فى فقيد عزيز، حسب وصفها لمكانته لدينا. هى لا تفهم أننى غير مدين لأحد بشىء، ولا حتى بنظرة ود وبسمة شفاه وربتة يد على كتف أو خد. فى هذا البيت يجب أن يكون معروفا أننى أنا الذى أقرر إن كنت بحاجة للخروج من المنزل لأداء عزاء أو شراء كيلو تفاح. لا أحد يقرر نيابة عنى. ابنتى الكبيرة تريد منى استقبال بعض أساتذتها والأخرى تريد أن تعرفنى على آخر من تعرفت عليه من الشبان. بالله عليك، ما دخلى أنا بهذه الأمور. أنا لا أريد أن أؤدى فى هذه المرحلة من حياتى أدوارا شكلية أو مراسيمية. أريد منهم جميعا أن يدركوا جيدا أننى لم أبخل على أحد بشىء، ولم أقصر فى حق أحد، أوفيت بالتزاماتى كاملة. جاء الوقت الذى عشت طويلا فى انتظاره، الوقت الذى يسمح لى بأن التزم الصمت إن شئت، وإن تكلمت فسوف أقول ما أشاء وقتما أشاء وباللغة التى اختارها وباللهجة التى أقررها. سوف أستخدم من الألفاظ ما أريد، وليس ما يريده الذين من حولى. أنا حر. أخيرا حصلت على حريتى ولن أسمح لأحد بأن يلومنى أو يعاتبنى أو يمنعنى بحجة أن بعض ما أقول يليق أو لا يليق أو أنه يخضع لمعايير الحرام والحلال.
***
سنوات وربما عقود مضت على هذه المقابلة. وفى يوم من أيام الأسبوع الماضى وقع فى يدى مقال كتبه متخصص وموضوعه سلوك الكبار وبخاصة مرضى السن المتقدمة. قرأت فتذكرت فورا المقابلة التى أثارت عندى عديد الأسئلة وغيرت الكثير من معلوماتى وتصوراتى عن كبار السن. تبين لى أن هناك نوعين من أمراض النسيان يقول أطباء إن أحدهما خطر والثانى أشد خطورة. كنت أعرف أن المريض بالألزهايمر يفقد الذاكرة،و لا يفقد هويته وشخصيته. تشعر وأنت معه وكأنه يكاد يذكرك. يقول القريبون منه إنه فى بعض الحالات قد يطلب منهم أن يناموا بجانبه. ينامون بالفعل وهم مطمئنون إلى أنه لا يؤذى أحدا أو نفسه. أما النوع الآخر من المرض أو لعله مرض آخر يبدو مماثلا للألزهايمر، فهو حسب رأى هذا الفريق من الأطباء فهو خطى، لأنه يصيب هوية الإنسان ويفقده منظومة أخلاقه Morality. المصابون بهذا المرض )dementia يتعمدون استخدام ألفاظ خارجة أمام الأطفال. يسبون ويلعنون أمام الأغراب. يبدون كما لو أنهم أصبحوا فجأة صريحين للغاية ومتحررين للغاية لا يخفون شيئا، حتى أنهم لا يتورعون عن خلع ثيابهم علانية بمناسبة وبغير مناسبة.
هم لا يبادلون الناس حبا بحب، ولا مودة تكسو علاقاتهم بأهاليهم وجيرانهم. المريض بهذا المرض يكذب كثيرا، والأطباء ينصحون بعدم تركه مع أطفال وإن كان رجلا فلا يتركونه مع نساء. لا يغضب إذا أهين لأنه لا يملك معيارا يقيس به مفهوم الإهانة. قد يسرق ويفخر إن فعل، قد يستجدى فى الطرقات ويجاهر بما استجدى. قد يخون وإن خان فسيتباهى بخيانته أو يستفز غيره بها.
***
أيهما أخطر بالنسبة لأهل المريض وللمجتمع، فقدان الذاكرة أم فقدان الأخلاق. فاقدو الذاكرة لا يفقدون عواطفهم وهوياتهم، بينما فاقدو الأخلاق يفقدون أنفسهم لأن المرض، كما يصرح بعض الباحثين الأطباء، يكون قد ضرب الخلايا المخية فى مواقع «النفس» الانسانية أو هكذا يظن العلماء الذين مازالوا يبحثون عن موقع «النفس» فى مخ الإنسان. ينصحون بالرقابة عن بعد على فاقدى الذاكرة خوفا عليهم من الضياع فى الطريق، ولكنهم ينصحون بفرض الرقابة المشددة على فاقدى منظومة الأخلاق. يطلبون مثلا إبعاد مفاتيح السيارة عن المريض، وكذلك بطاقات الائتمان ودفاتر الشيكات والآلات الحادة.
***
لا أعرف كيف ولماذا فكرت فى تطورين لا صلة مباشرة بينهما ولا صلة مباشرة بين أى منهما وموضوع هذا المقال. فكرت أولا فى ردود فعل بعض من ظهرت أسماؤهم فى تسجيلات الويكليكس كمتلقين أو طالبين أموالا من دولة أخرى. فكرت ثانيا فى سلوكيات بعض هؤلاء الذين يظهرون على شاشاتنا التليفزيونية يخاطبوننا بأعلى الأصوات ويتفوهون بأقبح الألفاظ، وينطقون أحيانا بأرذل الكلمات، ويغوصون فى خصوصيات البشر، ويسخرون من شعوب أخرى ويلعنون قياداتها ويسيئون إلى نسائها وأشرافها. هؤلاء يبدون كمن أصيب بفقدان القدرة على التحكم فى الذات، أو كمن تعرض للإصابة بفقدان القدرة على التمييز بين الصح والغلط، خاصة أن بينهم من يتصرف كما يتصرف فاقدوا القدرة على التعاطف والمودة وكما يتصرف عشاق الأذى.
ركزت الدراسة التى أجرتها الآستاذة Nina Strohminger من جامعة Yale على مرضى Dementia باعتبارها ظاهرة طبية، تمنيت لو ناقشها علماء الاجتماع المصريين باعتبارها ظاهرة اجتماعية تهدد منظومة القيم والأخلاق فى المجتمع.