مصر.. كيف تواصل السلطوية التمكين لنفسها
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 26 أغسطس 2016 - 9:15 م
بتوقيت القاهرة
ليس فى استطاعة السلطة فى مصر أن تستند إلى إنجازات اقتصادية واجتماعية حقيقية لحمل الناس على تجاهل ممارسات العنف والمظالم والانتهاكات اليومية التى باتت تحيط بالفضاء العام من كل جانب أو إلى صياغتها لرؤية سياسية مقنعة لكى تحافظ على حد مستقر من الرضاء المجتمعى. لذلك تتوالى محاولات السلطة عبر مؤسسات وأجهزة الدولة التى تسيطر عليها ومن خلال النخب المتحالفة معه لصياغة مزاعم بديلة لإقناع الناس إما بعدم التوقف عن تأييدها أو الاكتفاء بالعزوف عن الشأن العام والامتناع عن تطوير العزوف إلى معارضة يتبعها بحث عن بديل. وتلك فى المجمل محاولات تلى، ولا تسبق، استخدام أدوات العنف الرسمى إن لإخضاع المواطن أو لإخافته من عواقب المعارضة.
من جهة أولى، تتسع فى الخطاب الرسمى للحكم وفى الخطاب الإعلامى الموالى له دوائر «الأعداء والمتآمرين» الذين يدفع باتجاههم بمسئولية تعثر جهود إخراج البلاد من أزمتها المستحكمة وتعذر تحسين الظروف المعيشية لأغلبية الناس. فى صيف 2013، شكلت جماعة الإخوان المسلمين الدائرة الأساسية «لأعداء الوطن» وللمتآمرين «لنشر الفوضى» و«تخريب الاقتصاد الوطنى» و«تعطيل جهود التنمية» وغيرها. تدريجيا خلال السنوات الثلاث الماضية، أعقب دائرة «الإخوان الإرهابيين» الدائرة الأصغر عددا من دعاة حقوق الإنسان والحريات والفاعلين فى منظمات المجتمع المدنى الذين يحاولون لفت النظر إلى تدهور الأوضاع الحقوقية فى مصر. هؤلاء صنفوا «كأعداء» وألصقت بهم (تحت مسميات مثل الطابور الخامس) اتهامات الخيانة والعمالة والتآمر والسعى لهدم الدولة المصرية، وألصقت بهم أيضا اتهامات التواطؤ لتنفيذ «مخططات الإخوان» وتلقى «تمويلات أجنبية» لنشر الفوضى وتفتيت البلاد وإنهاك المؤسسات الوطنية. أما اليوم، فتتسع دوائر «الأعداء والمتآمرين» لتشمل قطاعات أخرى كالطلاب الذين يتم فصلهم من الجامعات وتسلب حريتهم، والبعض من الشباب والعمال الذين يواصلون إما الاحتجاج السلمى على السياسات الرسمية أو يرفضون الرضوخ لأوامر الطاعة والامتثال الصادرة عن الحكم أو يكسرون حاجز الصمت بشأن المظالم والانتهاكات المتتالية. عبر اتهامات «العداء للوطن والتآمر على الدولة ومؤسساتها»، تمرر وتبرر الإجراءات القمعية باتجاه الطلاب والشباب والعمال ويحاصر بعنف حراكهم الراهن. فالسلطة لا تتحمل الحديث العلنى عن مظالمها وانتهاكاتها، ولا تقوى على تحمل المسئولية عن إخفاق سياساتها الرسمية.
من جهة ثانية، إلحاقا بدوائر الأعداء والمتآمرين المتسعة بانتظام، تضخ السلطة دماء إضافية للكراهية والإقصاء ونزع الإنسانية ليعتاش عليها وحش الاستقطاب المجتمعى ولتطلق تعويلا عليها اليد القمعية. يخرج رسميون ومسئولون حكوميون ليطلقوا اتهامات جزافية بشأن هوية المتورطين فى أعمال الإرهاب وممارسات العنف، ويشيعوا الروح الانتقامية بين الناس، ويطالبوا بالعقاب الجماعى والفورى للمزعوم تورطهم من أعضاء جماعة الإخوان والمتعاطفين معها وغيرهم. يفعلون ذلك دون اعتبار للتداعيات الكارثية للجزافية والتعميم على نسيج المجتمع الواحد، دون تقدير لخطورة مشاعر الانتقام والتشفى وشررها المتطاير باتجاه المجتمع والدولة ومبادئ سيادة القانون والعدل.
تضخ السلطة المزيد والمزيد من دماء الكراهية والإقصاء ونزع الإنسانية وتستخدمها فى سياقات متنوعة؛ كخط دفاع مبدئى عن حكم يمعن فى القمع والعصف بضمانات حقوق وحريات المواطن، لتشويه ضحايا القمع ورافضيه وعموم المعارضين، وفى خطوة الجنون الأخيرة لتبرير جرائم كالقتل خارج القانون والاختفاء القسرى والتعذيب وسلب الحرية كأعمال مشروعة للحفاظ على الدولة وتماسكها وللحيلولة دون الانزلاق إلى غياهب الانهيار والتفتت المنتشرة إقليميا. وبالتبعية، يصبح الرسميون الأشد تطرفا فى تبنى خطاب الكراهية هم الأوسع حضورا فى الفضاء العام، ويصبح الإعلاميون أصحاب المساحات والنفوذ هم أصحاب التخصص الحصرى فى إلصاق الاتهامات الزائفة بضحايا السلطة وامتهان عقل المواطن بتغييب الحقائق والمعلومات. وبالتبعية أيضا، تحال إلى خانات المسكوت عنه مسئولية السلطة عن الأزمة المستحكمة الراهنة فى مصر وعن التداعيات الكارثية للكراهية والإقصاء ونزع الإنسانية على مؤسسات الدولة الوطنية التى ينهار رصيدها من الثقة الشعبية وعلى التضامن المجتمعى الذى تخصم منه بقسوة المظالم والانتهاكات.
من جهة ثالثة، يعمد الخطاب الرسمى للحكم ومعه الإعلام الموالى له إلى منع غير الراضين بين المواطنات والمواطنين من تطوير موقفهم باتجاه البحث عن بديل بالتشديد (شبه اليومى) على عجز المعارضة عن إدارة شئون مصر وعلى احتياج «سفينة الوطن» إلى قيادة المؤسسات والأجهزة النظامية بسبب الضعف البين للمؤسسات والنخب المدنية. ومجموعة أخرى من المقولات الرومانسية عن «المؤامرات الإقليمية والدولية التى تستهدف تصفية لحظة النهوض الوطنى»، وغيرها. ويستتبع ذلك إسقاط مفهوم «العجز عن إدارة شئون البلاد» على المؤسسات والنخب المدنية فى بنية الدولة المصرية وتعريف أدوار تلك المؤسسات والنخب فى سياق الالتحاق بالقائد والمؤسسات القوية التى تحمى الوطن والدولة، ويليه التداول المتواتر لمقولات التسخيف من المعارضين كمدفوعين «بغواية المصالح والعوائد الشخصية» وكفاعلين فى «كيانات مشوهة» (أحزاب ومنظمات وحركات) غير قادرة على الإلمام بمقتضيات الإنقاذ والخلاص الوطنيين.