الإدارة التحجيمية.. «جن» يكتم التقدم
محمد رءوف حامد
آخر تحديث:
الخميس 26 أغسطس 2021 - 8:50 م
بتوقيت القاهرة
برغم تطور الإدارة بالاعتماد على تقنيات التواصل والمعلوماتية والذكاء الاصطناعى، إلا أن الفكر الإدارى ذاته، صار يرجع بأوضاعها إلى الوراء.
لم يأت هذا الرجوع فجأة، فقد كان فى مرمى الاستشراف.
هنا تعود الذاكرة بكاتب هذه السطور إلى مقال بعنوان «العلماء العمال ومستقبل الأمن القومى» (الأهرام 30 سبتمبر 1992)، وإلى محاضرة بعنوان «العولمة والإدارة ــ التأثيرات المتبادلة» فى المؤتمر السنوى لكلية حقوق جامعة المنصورة (2002).
فى الطرحين استشرافات لعواقب العولمة الحديثة على الإدارة. وبالفعل شهدت البدايات ــ كمثال ــ بزوغ ظاهرة تسريح الباحثين العلميين من الشركات العالمية، بالتصاحب مع تزايد أنشطة العملقة والاستحواذ بين الشركات وبعضها.
صدرت هذه التغييرات من خلال توجهات (والتفافات) القيادات الحاكمة لعديد من الشركات الكبرى، والتى هى نيوليبرالية الطابع، وكانت فى جوهرها تستهدف المحافظ (والاستثمارات) المالية.
تسارع اقتلاع الانتماء
ومع تزايد حدة النيوليبرالية (أو الرأسمالية الشرسة) تحول العاملون فى المؤسسات عابرة الجنسيات، ثم ــ بالتبعية ــ فى المؤسسات المحلية (هنا وهناك)، من الانتماء إلى المؤسسة، ككيان، إلى الانتماء لـ«شخص المسئول». وعليه، تنامى «الانتماء الاتباعى» إلى السلسلة الهرمية من المسئولين، حيث على المرءوس (فى جميع المستويات) أن ينفذ ما يُملى عليه بالتفصيل، ودون نقاش.
ولأن كل مسئول هو فى نفس الوقت مرءوس إتباعى لرئيسه، تحولت المؤسسات إلى اتباعية مرَضِية مفرطة، استُفحلت فيها احتكارية صناعة القرارات فى اتجاه أحادى ينزل من أعلى، حيث يمتنع على الغالبية التشارك الحقيقى فى فعاليات الحوار وتبادل الرأى. وهكذا، فُرضت، وتغلغلت، الإدارة التفصيلية (أو ما يعرف بالـ Micromanagement).
فى هكذا أوضاع، تسارعت عجلة «اللا انتماء» فى الإدارة، وتفشت سلوكيات «اربط الحمار مطرح ما يحب صاحبه»، وصارت الاتباعية تتماس مع العبودية.
غول الإدارة التحجيمية
وبحكم ما يكمن فى الإدارة التفصيلية من قصور وانحراف فقد قادت إلى الأسوأ، والذى يمكن تسميته «الإدارة التحجيمية».
فى الإدارة التحجيمية تُفرض التوجهات والتفاصيل من أعلى، كما فى الإدارة التفصيلية، ولكن مع الاستئصال العقابى للمخالفين فى الحس والرؤية، وذلك بالتنكيل والإقصاء، سواء لأفراد، أو لكيانات، أو حتى لدول.
هنا يجدر الانتباه إلى أنه لم يكن للإدارة التحجيمية وجود سابق إلا فى التعاملات مع العبيد، أو فى السجون مع عتاة المجرمين، وإلى حد ما فى بعض العداءات السياسية السلطوية.
وعموما، تعتبر الإدارة التحجيمية هى الإدارة الأكثر شراسة فى الانحراف عن المنهج العلمى، حيث تتمثل مخرجاتها فى خليط من الانحطاط والتقليص للفرص والقدرات، والتقزيم والكتم للإمكانات، ونزع الحيوية الطبيعية من عموم المنظومات (كيانات أو أفراد).
يقود الحديث عن الإدارة التحجيمية إلى التساؤل عما يمكن أن يكون عليه المقابل العكسى لها؟
نتيجة لهول تطرفية الإدارة التحجيمية يكون نقيضها (أو معكوسها) معروفا بالفطرة، هو «الإدارة التمكينية»، حيث الفهم والرعاية والجماعية، فى مقابل ما تقوم عليه الإدارة التحجيمية من منع، وبطش.
وبينما تستهدف الإدارة التمكينية تحسين الواقع وفتح المستقبليات، فإن الإدارة التحجيمية تقود إلى تفتيت الواقع.. وتنتهى بغلق المستقبليات، سواء فيما يختص بالأفراد، أو المؤسسات، أو الدولة.
بمعنى آخر، تقوم الإدارة التحجيمية على «فكر القوة» (أو السلطوية)، بينما الإدارة التمكينية تتسلح بـ«قوة الفكر» (أو استخدام المعرفة للتوصل إلى ما ينبغى أن يكون).
وهكذا، فى الإدارة التحجيمية، لا يجرى التعامل مع المرءوسين كموارد بشرية، حيث يعتبرون مجرد أدوات (شطرانجية) للتحريك، أو للنحر. من هنا، تفتقد الإدارة التحجيمية القدرة على اكتشاف الرؤى الذهبية للتطوير أو لحل المشكلات، فمثلا، لو كانت حرب الاستنزاف ضد العدو (1967 ــ 1973) قد أُديرت بالإدارة التحجيمية لما كان من الممكن التوصل إلى ابتكار طريقة لاختراق خط بارليف.
أكذوبة الهدم البناء
المسألة إذن أن الإدارة التحجيمية تشغل مكانة الخادم لأهداف النيوليبرالية والتى هى أصل هذا النوع من الإدارة.
فى هذا الخصوص نتذكر مبدأ الهدم البناء، والذى سعت الإدارة الأمريكية لفرضه على بعض بلدان الجنوب (زمن كونداليزا رايس وبوش الابن). يمثل هذا المبدأ نموذجا للتزييف الذى يجمع الإدارة التحجيمية مع النيوليبرالية، حيث هو تحريف عن مبدأ بنفس المسمى يرجع إلى جوزيف شومبيتر (فى الأربعينيات)، ويختص بالتطوير التكنولوجى للمنتجات، وليس مطلقا بتطوير المجتمعات، والتى يكون هدمها مضادا لمصالحها ومستقبلياتها، تماما كما جرى فى العراق والأفغانستان.
الإشكالية الآن أن منهجيات الإدارة التحجيمية تتغلغل بشدة داخل عديد من البلدان، وصارت تمثل النتيجة الأكثر خطرا للعولمة الحديثة، خاصة فيما يتعلق بالانعكاسات السلبية على البيئة والمناخ والرفاه الاجتماعي والعلاقات الدولية.
تحجيمات دولية المستوى
هذا، وتجدر الإشارة، إلى الممارسات التحجيمية الأمريكية المضادة لبدايات تنموية واعدة فى دول الجنوب، وخاصة فى البرازيل وفى فنزويلا. ذلك فضلا عن ممارسات لإثناء بلدان أخرى عن ممارسات ذات جذور تراثية، ولها فضل فى التقدم المتفرد لهذه البلدان، مثلما جرى من ضغوط لإثناء اليابانيين عن العُرف الخاص باستمرارية العمل فى نفس المؤسسة طوال الحياة Long life job، الأمر الذى يدل على جذرية الانتماء فى الشخصية اليابانية.
إشكاليات تحتاج للبحث
ومن منظور مقارن، يمكن جذب الانتباه إلى ما يلى:
ــ قد تطرأ الإدارة التحجيمية عن قناعة نفسية بصلاحية الذات (السلطة)، نتيجة لعدم الدراية بالإدارة كفن وعلم، كما قد تنتج من توجهات وتحالفات شرسة لكسب مصالح ما.
ــ لا تتعلق قدرة الإدارة التحجيمية على الإنجاز الفورى بالكفاءة بقدر ما تنجم عن استخدام السلطة لأدوات القوة فى صورها المختلفة، تشريعية، أو مالية، أو... إلخ.
ــ بينما يمكن للإدارة التحجيمية تسريع الإنجاز ليتحقق فى مدى زمنى قصير جدا فإن الناتج يكون عُرضة لتكلفة عالية تتداخل سلبا مع سلامة الإنجاز، والموارد، والأولويات، وكذلك الصحة طويلة المدى للأمن الوطنى. وعلى العكس، تتعاظم عائدات الإدارة التمكينية على مختلف الأبعاد الزمنية، فضلا عن تحقيقها للاستقرار النفسى المجتمعى.
ــ ترجع قدرة الإدارة التمكينية على التحفيز وتعظيم الإمكانات إلى تمتعها بالحرية والمنظومية.
مداخل تصحيحية
وختاما يمكن القول بأنه مهما كانت الإدارة التحجيمية ناجمة عن ثقة ذاتية عالية عند المسئولين الأعلى فإن توابع سلسلة الحيودات التى يمكن أن تنتج عنها تكون عادة لا نهائية. ذلك الاعتبار يُحفز جميع المسئولين فى مختلف المستويات على استيعاب الآليات التصحيحية لأية توجهات إدارية غير آمنة. وغنى عن البيان أن جوهر هذه الآليات يكمن فى الإنصات إلى الآخر وقبول الحوار معه. الآخر المقصود هنا، محليا، تتعدد أشكاله، فهناك النقابات، وجماعات العمل المدنى، والأحزاب (على اختلافها)، فضلا عن أصوات وأقلام المفكرين وأصحاب الرأى، وأصحاب المظالم. أما عن تصحيح التحجيم الدولى فيحتاج إلى تناول مختلفة.