«محمد خان سيرة سينمائية».. وإنسانية أيضا!
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 26 أغسطس 2023 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
ــ 1 ــ
لأكثر من ساعتين دار حوار مدهش مساء الأحد الماضى بمكتبة البلد، فى حضور صفوة من كبار السينمائيين وأصحاب البصمات فى تاريخها، على شرف صدور الطبعة الجديدة المنقحة من كتاب «محمد خان ـ سيرة سينمائية» من تأليف الناقد القدير محمود عبدالشكور، الصادر عن دار ريشة للنشر والتوزيع (2023) . وفى ظنى أن هذا الكتاب هو أشمل وأهم قراءة فنية تحليلية لسينما محمد خان عبر مشواره الذى امتد منذ سنة 1978 وحتى آخر أفلامه «قبل زحمة الصيف» 2015.
كتاب شارح ومانح للمفاتيح الضرورية واللازمة لمشاهدة ممتعة ومثمرة لأفلام محمد خان الخمسة والعشرين التى قدمها عبر مشواره الفنى والسينمائى المشرف، الأفلام التى اكتسب بها ومن خلالها مكانته المستحقة بين أبناء جيله من مجددى الرؤية الإخراجية فى السينما المصرية منذ أواخر سبعينيات القرن الماضى؛ الجيل الذى أطلق عليه البعض تيار الواقعية الجديدة تارة، و«المخرجون الجدد» تارة أخرى، وأصحاب الرؤية الفنية التجريبية تارة ثالثة.. إلخ.
عندما كنت أشاهد أفلام محمد خان (وخاصة الشهير منها) وأنا صغير، لم أكن أعلم أن وراءها مخرج «مايسترو» يقود ويوجه ويحسن توظيف وإدارة خلايا الإبداع والتمثيل لدى فريق الممثلين الذين يتعامل معهم ويقودهم، لم أكن أعلم أن هناك رؤية ودلالة مقصودة لكل تفصيلة أو زاوية كاميرا أو تحكم فى إضاءة لإبراز أثر معين. كل هذا أدركته واستوعبته بصورة كاملة بعد أن قرأت كتاب محمود عبدالشكور.
ــ 2 ــ
يقدم الكتاب مسحا نقديا تحليليا لإبداع محمد خان عبر مشواره الفنى؛ مؤطرا بمقدمة ذاتية عنوانها «حكاية العشق»، وخاتمة سطرت «الوداع الأخير». بالإضافة إلى الجزء التوثيقى التأريخى لمشوار خان: «فيلموجرافيا وتكريمات وجوائز» كاملة وموثقة، و«ألبوم صور» شخصية ومشاهد من الأفلام، وخلاصة تتضمن «محمد خان فى سطور».
ما بين «حكاية العشق» و«الوداع الأخير»، يقدم عبدالشكور قراءة تحليلية عميقة لخمسة وعشرين فيلما هى حصيلة ما أخرجه محمد خان من أفلام للسينما، استهلها بفيلمه القصير «البطيخة» (سبعينيات القرن الماضى)، واختتمها بفيلمه الروائى الطويل «قبل زحمة الصيف» (2015) . وما بين الفيلمين، حكاية طويلة قوامها الهوس بالسينما، عشق بلا حدود، وافتتان ملك عليه القلب والروح، كان محمد خان وطوال رحلته مع الحياة والسينما والناس، منذ أعلن عن نفسه كمخرج سينمائى عام 1978 فى فيلمه الروائى الأول «ضربة شمس»، ملء السمع والبصر، حضوره الإنسانى والفنى باذخ وواسع المجال.
وليس من أبناء جيلى ولا من الأجيال السابقة ولا التالية من لم يتوقف عند فيلم أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر من أفلامه، احتلت مكانها فى القلب والروح، استفزت أسئلة وطرحت استفهامات عن قدرة هذا الفن العظيم «السينما» فى أن يرينا عن أنفسنا وعن العالم ما لا نعرفه ولا نراه.
ــ 3 ــ
أما محمود عبدالشكور وعلاقته بأفلام محمد خان، ثم علاقته الإنسانية العميقة بخان نفسه والتى توطدت فى السنوات الأربع الأخيرة من عمره، فتستحق كتابا بكامله.
على المستوى الشخصى، أحببت محمد خان مخرجا وفنانا مبدعا (قبل أن أعرفه إنسانا ودودا وصديقا رائعا)، من شغف محمود عبدالشكور به وبأفلامه، لم يترك فيلما لمحمد خان لم يشاهده عدة مرات، ويكتب عنه ويحلل مشاهده، ويقدم دروسا بديعة فى الكشف عن جماليات التكوين ورسم المشهد، وفن قراءة الصورة السينمائية، وتحليل عناصرها باقتدار.
قرأت كل ما كتبه محمود عن محمد خان، حكى لى كثيرا عن فنيات وجماليات أفلامه بحماس شديد ومحبة غامرة، وعندما تعرف إليه والتقاه فى بيته بالمعادى أكثر من مرة، قال لى: «أحب هذا الرجل.. فنان مبدع وطفل كبير».
صحيح أن خان لم يكن من المقبلين على التعرف على الناس بسرعة، ولا من المتواصلين اجتماعيا بشكل مباشر وحميم من مجرد لقاء أول أو حتى ثان، لكنه كان يحب البشر ويحمل طاقة ود وتعاطف وتفهم غير محدودة، سخريته ناعمة وقاتلة، ذكاؤه مرعب وإن بدت نظرات عينيه مستكينة ووادعة، وبسمته الجميلة مرتسمة على وجهه البشوش لا تعلم إن كانت ابتسامة رضا وسرور أم ابتسامة شجن وأسى وسخرية مريرة من كل شىء.
ــ 4 ــ
وأنا أقرأ سطور ما كتبه محمود عن خان، وهى سطور غزيرة وعميقة، تقرأ الأفلام، تحلل المشاهد، تكشف الحرفية والصنعة والموهبة فى بناء الصورة وإنتاج الدلالة، قلت فى نفسى إن هذا الرجل كان يتمنى أن يقرأ هذه الكلمات عنه، سيكون خان سعيدا بكل ما كتبه محمود عنه، خاصة هذا الكتاب الذى أتصور أنه أهم وأجمل وأمتع ما كتب عن خان وأفلامه.
عندما كتب محمود مقالا نقديا عن فيلمه الأخير «قبل زحمة الصيف»، وكان له رأى سلبى فى الفيلم، كتب له محمد خان بمحبة صادقة «آن لنا أن نختلف بحب».. يا له من شخص جميل وغريب ومدهش!
«آن لنا أن نختلف بحب» جملة عبقرية أعتبرها مفتاحا لفهم هذا الرجل ودعوة أيضا وجهها لنا ويوجهها للعالم، فمن الممكن أن يكون اختلافنا بحب ورقى أيضا، إذا كانت دفة القيادة تقدر قيمة الاختلاف وتحترمه وتعتبره سنة من سنن الله فى الأرض، وأن يكون اختلافنا بحب، والرغبة فى أن نقدم فنا أصيلا وجميلا وممتعا، والدليل، أكبر دليل، محمد خان نفسه، وفنه، وسيرته السينمائية والإنسانية أيضا التى بقيت من بعده.