من سيحكى لنا حكايتنا؟
ساره راشد
آخر تحديث:
الإثنين 26 أغسطس 2024 - 6:20 م
بتوقيت القاهرة
إزاء حركات التحرر الوطنى المستمرة، وجد الاستعمار أن وسائله السابقة لم تعد تتمشى مع روح العصر وأخذ يغير فى شكله ووسائله، حتى يستمر فى تحقيق أهدافه، التى تتركز فى استغلال ثروات الشعوب.
بهذه الفقرة يختتم كتاب التاريخ للصف الأول الثانوى فى أوائل الثمانينيات فصله السادس، الذى يحمل عنوان (صراع الدول الكبرى وحركات الشعوب الإفريقية والآسيوية من أجل الحرية فى القرن العشرين). ثم يصف بعد ذلك ملامح الاستعمار الجديد وأساليبه المختلفة وواجب الشعوب نحوه.
كان لابد آنذاك أن يختفى هذا الكتاب الذى تناول بين دفتيه ثورات شعوب العالم من أجل الحرية، والثورة الصناعية فى أوروبا، وحركة الكشوف الجغرافية.
بدأ فيما بعد تغيير لمنهج التاريخ اختصرت فيه حقبة الاستعمار، ونوه فيه عن أن ثمة كشوفا جغرافية قد حدثت، أنه كان هناك ثورة صناعية فى يوم ما. ما يوازى هذا العرض التاريخى المبهر- المصحوب بالخرائط التى توضح تأثر حركة التاريخ على الجغرافيا المكانية وتحول الإمبراطوريات ونشأة الدول ــ لا نجده إلا فى كتب الثانوية الأجنبية التى تدرس شهاداتها فى مصر. أما كتب المناهج المصرية فإنها مختصرة ومبتورة المعلومات والأحداث.
فى الثانوية الفرنسية مثلا، هناك كتاب مدمج لمادة التاريخ والجغرافيا على مثل هذا المستوى من القيمة وحجم المعلومات، حتى أننا نجد عدد صفحات الكتابين يكاد يكون متماثلا فى حدود ٣٠٠ صفحة. وهو ما يعادل عندنا الآن مرجعا من المراجع المتخصصة لطالب فى الدراسات العليا وليس فى الثانوية المصرية.
من الذى يرشدنا إذن أن ما يحدث فى المناهج التعليمية هو بمثابة تطوير لها؟ ألا يعد ما نجده فى الكتب الأجنبية من سرد مصور للحقب التاريخية المختلفة مصحوبا بعرض مقارن للمتغيرات المعاصرة تطويرا لم نجد له مثيلا فى كتبنا المدرسية حتى الآن؟ وماذا عن أولادنا الذين يدرسون التاريخ والجغرافيا من المنظور الغربى كما يعرضه الغرب لأبنائهم؛ ونرضاه لأبنائنا وبناتنا بحصولهم على الشهادات الثانوية الأجنبية؛ هل يقع عليهم اللوم إذا فقدوا هويتهم واختفت عن محيط علمهم حقائق تاريخية متعلقة بمستقبل بلادهم ومصيرهم الإنسانى؟
فإذا رحبنا بكتب أجنبية تدرس الحضارة الأوروبية منذ نشأتها إلى العصر الحديث وتغفل تماما دور العرب والمسلمين وحضارتهم التى أسست العلوم الحديثة وازدهرت من مشارق الأرض إلى مغاربها؛ فمن أين لأولادنا الاعتزاز بثقافتهم وهويتهم، وقد انحسرت دراسة مادة التاريخ على فئة قليلة؛ وتغيرت مناهجها من أجل التخفيف على الأبناء؟
إن ما نجده فى الكتب الدراسية فى الثانوية الفرنسية من معلومات عن مصر فحسب، لهو دليل حى على أننا ــ منذ أن اُكتشف حجر رشيد إلى اليوم ــ ما زلنا نستمع لحكايتنا عن مصر الفرعونية من فرنسا!!
فى كتبهم شرح ووصف للأهرامات من الداخل بالتفصيل، واهتمام بتحقيق الوثائق التاريخية وقراءة الأثر التاريخى ووصفه، والقدرة على استنباط دلالات الرموز فى التماثيل والكتابة على الجدران. ورغم هذا الاهتمام الخاص بالحضارة الفرعونية؛ نجد أن الكتاب الفرنسى ينحى النموذج المصرى برمته جانبا عندما يلقى الضوء على خريطة المدن الساحلية؛ فلم يختر نموذجا سياحيا سوى مدينة إيلات على ساحل البحر الأحمر!
هكذا تدرس الشهادات الأجنبية لأبناءنا وبناتنا كتبا نخجل من ترجمتها. ورغم ذلك لا نضع منهجا موحدا يحمل أمانة العلم والمعرفة ويسلمها بفخر لأبناءنا. هل تبنى الدول اعتزاز أبنائها بثقافتهم وهويتهم بالأناشيد والفواصل الإعلانية الدعائية؛ أم بالعلم والمعرفة والتاريخ المقارن؟
إن ما يحدث فى مادة التاريخ اليوم من تغيير وتبديل وتخفيف هو الصدع الأكبر فى بناء هذا الوطن الذى يعافر من أجل تماسكه وتكافل أفراده. لن يرضى أبناؤنا وبناتنا بمثل هذا النذر اليسير من المعرفة فى عالم الفضاء المعلوماتى. بل سيكونون ضحايا التغريب وفقدان الهوية من ناحية، والجهل والتعصب من ناحية أخرى. وبين هذا وذاك يواجه المجتمع تغيرا ديموغرافيا جديدا بسبب اللجوء السياسى إلى مصر من عدد من الدول المجاورة.
من سيحكى لنا حكايتنا إذن؟ وهل إذا اختصرت فى الكتب الدراسية، ستشبع لدينا الرغبة فى معرفة الحقيقة والإجابة على الأسئلة الملحة التى لابد أن نجد لها إجابات؟ إن لم يكن ذلك فى الحسبان فإن صاحبها المجنى عليه (التاريخ) هو الذى سيجيب عنها بنفسه.