إصلاح التعليم بين منتجعات القطامية وعشوائيات الخنازير
فاروق جويدة
آخر تحديث:
الأحد 26 سبتمبر 2010 - 12:44 م
بتوقيت القاهرة
قضية التعليم واحدة من أخطر وأهم قضايا هذا العصر فلا مكان فى المستقبل القريب أو البعيد لشعوب تعيش خارج هذا العصر.. ومهما حققت الشعوب من إنجازات فى مجالات التنمية المختلفة سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية فإن التنمية البشرية ستبقى أهم عناصر التقدم لأن صناعة البشر هى القضية الأهم فى مقاييس التقدم الحضارى.. ولأن التعليم هو أهم عناصر التنمية البشرية فإن دول العالم تسعى لتوفير أكبر قدر من الموارد والإمكانات لتحقيق أعلى معدلات التنمية فى عناصرها البشرية.هناك دول تضع التعليم فى مقدمة أولوياتها رغم أنه استثمار طويل المدى إلا أنه من أكثر أنواع الاستثمار أمانا.. فى دول العالم المتقدم تأخذ قضية التعليم أهمية خاصة رغم كل ما وصلت إليه هذه الدول من مظاهر الرخاء والتطور.. ولقد أصبح هناك ارتباط وثيق بين عناصر التنمية المختلفة ومعدلات النمو فيها وبين قضايا التعليم لأنها أفضل أبواب التنمية الحقيقية.
فى أمريكا واليابان تحتل قضية التعليم أهمية خاصة.. وفى معسكر الدول الناشئة قامت كل إنجازاتها على العملية التعليمية كما حدث فى ماليزيا وتركيا ودول شرق آسيا، ولهذا فإن مستقبل الإنسانية يرتبط فى الأساس بمدى قدرة المجتمعات على توفير عنصر بشرى أكثر كفاءة وقدرة على مواكبة العصر بكل مجالات التفوق والتميز فيه..
من هنا تأتى أهمية قضايا التعليم فى مصر كعنصر من أهم عناصر البداية الصحيحة وللأسف الشديد فإن هذه القضية خضعت زمانا طويلا لمنطق التجارب وتحول أبناؤنا فى أحيان كثيرة إلى حقول للتجارب تشبه ما يجرى على الفئران فى المعامل ومراكز الأبحاث.. فى فترة من الفترات تم إلغاء السنة السادسة من المرحلة الابتدائية وارتبكت مسيرة التعليم الابتدائى.. وبعد سنوات قليلة عادت السنة السادسة ولم نعلم حتى الآن لماذا ألغيت ولماذا عادت.. وشهدت المرحلة الإعدادية أكثر من تجربة ما بين الإبقاء والإلغاء.. ثم انتقلت معامل الفئران إلى المرحلة الثانوية ما بين سنة واحدة للثانوية العامة وثلاث سنوات عجاف.. كان الخطأ الاساسى فى كل هذه التجارب العشوائية أنها لم تقم على دراسات حقيقية ولكنها كانت مجرد اجتهادات شخصية أو أفكاراً طافت فى رأس مسئول..
عبرت الثانوية العامة بين تجارب كثيرة ولم تصل إلى شىء حتى الآن.. ومازالت تخضع لمنطق التجارب فى مناهجها وسنوات الدراسة فيها وأساليب الالتحاق بالجامعات بعد الانتهاء منها..
على جانب آخر، بقيت مناهج التعليم واحدة من أهم ثغرات العملية التعليمية فى مصر لقد تعرضت المناهج لمتغيرات كثيرة ولم نستطع حتى الآن أن نصل إلى منهج دراسى عصرى يقدم أجيالا قادرة على التفكير السليم ومسايرة العصر فى أساليبها وقدراتها.. بقى المنهج التعليمى عندنا يقوم على الحفظ ويقدم لنا أجيالا خارج سياق العصر.. إن اخطر ما فى المناهج الحالية فى التعليم المصرى أنها تقدم نسخة وحيدة من البشر تعتمد على أساليب الحفظ والتلقين دون أن تحاول تجاوز ذلك كله إلى آفاق من البحث والفكر والمعرفة..
بقيت مسافات كبيرة بين الطالب المصرى وزميله فى مدارس العالم المتقدم من حيث استخدام التكنولوجيا الحديثة وتنمية القدرات الذهنية والقدرة على الاستنتاج والتحليل..
وأمام هذه النوعية التقليدية الثابتة من المناهج تجمد دور المدرس المصرى أمام عجز الإمكانات وعدم توافر الوسائل الحديثة وتخلف العملية التعليمية بصفة عامة.. وترتب على ذلك كله ظهور مملكة الدروس الخصوصية وهى من اخطر الأمراض التى لحقت بالعملية التعليمية فى مصر.. إن الدروس الخصوصية فى مصر الآن هى مفتاح النجاح ووسيلة التفوق وأكبر ضمان للحصول على مقعد فى إحدى الكليات الجامعية وليس من الضرورى بعد ذلك أن يكون الطالب صالحا للتعامل مع عصره أم أنه سيعيش خارج نطاق هذا العصر..
وما بين مناهج متخلفة.. ومدرس تجمدت قدراته العلمية والتربوية ودروس خصوصية ظهر الكتاب الخارجى وكان أكبر وسيلة لتأصيل كل مظاهر العجز فى العملية التعليمية حيث يقدم صيغة ثابتة للمناهج وطريقة التدريس وأساليب الفهم وكيف يكون الامتحان.. هذه السلسلة من الأخطاء هى التى تحكم الآن العملية التعليمية ولنا أن نتصور نتاجا بشريا يقوم على الحفظ والتلقين ويغيب فيه دور المدرس أمام مملكة الدروس الخصوصية ثم بعد ذلك نجد أنفسنا أمام صيغة ثابتة من الامتحانات لا تتغير..
ومنذ ثمانية شهور هبط على وزارة التربية والتعليم د. أحمد زكى بدر وظهر الرجل على الساحة يمتطى جوادا ويقتحم حجرات المدارس ويطارد المدرسين والطلاب والنظار.. ويخصم راتب هذا وينقل ذاك.. وبدأ مسلسلا من التحذيرات والتهديدات والوعيد حتى أن البعض تصور أن الرجل يطبق قواعد الشرطة وليس التربية والتعليم.. استوعب الشارع المصرى حماس الوزير الجديد وبعد فصل طويل من التحذيرات والتهديدات والوعيد بدأ وزير التربية والتعليم يمهد الطريق لأحلامه وهى بكل تأكيد أحلامنا جميعا.. فى المرحلة الأولى من النشاط البوليسى للوزير لم أحاول أن أتفهم ما يحدث وقلت إنها نشوة المنصب الجديد وعلينا أن ننتظر ما بعد سكون العاصفة..
فى لحظة واحدة بدأ الوزير الجديد يسدد الضربات فى أكثر من اتجاه..
بدأ معركة ضارية ليحقق قدرا من الانضباط داخل المدرسة.. أن تكون هناك مواعيد ثابتة وملزمة للحضور والغياب للطلاب والمدرسين وأن تكون هناك نسبة ثابتة للحضور حتى يمكن للتلميذ أن يؤدى الامتحان وهى لا ينبغى أن تقل عن 75%.
وعندما زار الوزير عددا من المدارس لم يجد المدرسين ولا النظار ولا التلاميذ وبدأ رحلة جديدة ليعيد كل هؤلاء إلى حوش المدرسة مرة أخرى..
فى نفس اللحظة بدأ د.أحمد زكى بدر معركة أخرى فى طبع الكتب المدرسية مع الناشرين وأصحاب المطابع.. واشتدت الأزمة بين الطرفين وقرر الوزير وضع سياسة جديدة لطبع الكتب المدرسية تعتمد فى الأساس على مطابع الحكومة رغم أن هناك عشرات الآلاف من العمال والموظفين الذين يعملون فى المطابع الخاصة وهؤلاء مهددون فى حياتهم وأرزاقهم..
لم يكتف الوزير بهذه الجبهات ولكنه سرعان ما اتجه إلى معركة أخرى مع أصحاب الكتب الخارجية حيث طالبهم بدفع رسوم للوزارة بمئات الملايين من الجنيهات.. واشتدت الأزمة بين الوزير وبين أصحاب الكتب الخارجية والأمر الآن معروض على القضاء.. الوزير يرى أن من حق الوزارة أن تضع ضوابط وتقرر رسوما وتراجع هذه الكتب علميا وأصحاب المكتبات يقولون إن المادة العلمية ملك للبشرية وليس لوزارة التربية والتعليم أى وصاية عليها..
وفى معركة واحدة وجد أحمد زكى بدر نفسه أمام أصحاب المطابع ودور النشر والكتب الخارجية وحالة الانفلات فى المدارس حيث لا حضور ولا انصراف ولا رقابة.. وهناك معركة أخرى ينتظرها الوزير مع مملكة الدروس الخصوصية فى كل محافظات مصر..
فى تقديرى أن د. أحمد زكى بدر قد وسع كثيرا دائرة مواجهاته.. سوف أفترض أن الوزير وضع بالفعل خطة مدروسة لتطوير العملية التعليمية ولكن الواضح أن الوزير بدأ بالشكل والمظهر فى حين أن الفساد الحقيقى فى جوهر العملية التعليمية..
إن الأزمة الحقيقية ليست فى حضور أو غياب المدرس ولكن المشكلة فى عقل وتكوين هذا المدرس وقدراته العملية والتربوية..
إن الأزمة الحقيقية ليست فى حضور التلاميذ أو غيابهم ولكن المشكلة الحقيقية فى المناخ الذى يتعلم فيه التلميذ ويتلقى دروسه..
إن الأزمة الحقيقية ليست فى توفير جهاز الكمبيوتر ولكن فى قدرات التلميذ والمعلم القادر على استخدام هذا الجهاز العصرى المتطور..
لقد أعلن وزير التربية والتعليم أنه قام بتدريب 800 ألف مدرس من بين مليون و200 ألف مدرس منذ تولى المسئولية الوزارية.. هل يعنى ذلك أن وزارة التربية والتعليم قامت بتدريب 100 ألف مدرس فى الشهر.. أى أكثر من 3000 مدرس فى اليوم.. وأين تدرب هؤلاء وعلى أى شىء تم تدريبهم؟، إن تدريب لاعب الكرة يحتاج إلى شهور وشهور ونحن أمام مدرس يحتاج إلى تدريب فى اللغة وطريقة التفكير واستخدام التكنولوجيا وأساليب التعليم الحديثة والوسائل النفسية والذهنية للعملية التعليمية فهل يعقل أن الوزير الحالم قام بتدريب 800 ألف مدرس منذ تولى الوزارة وفى 8 شهور؟.
إن الوزير يقول إنه قدم للمدرسين خبرات جديدة فى تكنولوجيا المعلومات والمعامل والكمبيوتر وهذه البرامج تحتاج إلى تدريبات عملية وهى أيضا تحتاج إلى عامل الوقت فكيف توافر ذلك كله فى 8 شهور لأكثر من 800 ألف مدرس؟..
نأتى إلى منطقة أخرى من الساحة الواسعة التى فتح فيها الوزير معاركه.. لقد أعلن الحرب مرة واحدة على جبهتين.. الجبهة الأولى هى أصحاب المكتبات والناشرين الذين يقومون بطبع ملايين الكتب المدرسية للوزارة.. كان ينبغى أن يتدرج الوزير فى خطوات استغناء الوزارة عن هؤلاء خاصة أن هناك آلاف الأسر التى تعيش من العمل فى هذه المطابع.. على جانب آخر فإن معركة الوزير مع الكتب الخارجية كان من الممكن أن تتم فى ظروف وأساليب أفضل خاصة أن الوزير رفض الحوار مع ممثليهم لتوضيح مواقفهم مما جعلهم يلجأون إلى القضاء..
إن الكتب الخارجية تباع الآن فى السوق السوداء فى كل المكتبات والوزير يعتبرها تجارة غير مشروعة وسوف يلجأ إلى قوات الأمن لمطاردة الكتب الخارجية ومصادرتها وإلقاء القبض على أصحابها..
وما بين معارك أصحاب المطابع ومطاردة أصحاب الكتب الخارجية واقتحام المدارس ونقل النظار ومعاقبة المدرسين والتلاميذ تبدو رحلة الدكتور أحمد زكى بدر لمرحلة جديدة لإصلاح أحوال التعليم فى مصر.. إن أخطر ما فى هذه الرحلة أنها بدأت بالمطاردات والمعارك فى مجال يحتاج إلى الفكر والعقل والفهم والتوافق..
إن فصل مدرس أو ناظر أو تلميذ ليس هو الحل الأمثل لتطوير التعليم فى مصر، ينبغى أن يسبق ذلك خطوات أخرى كثيرة..
كان ينبغى أن تتشكل لجان علمية لمراجعة جميع المناهج بالمراحل التعليمية المختلفة ليس من الضرورى أن نبدأ هذا العام ولكن المهم أن تتخلص المناهج من الحشو وأساليب الحفظ والتلقين وأن نقدم للتلاميذ مناهج عصرية تشجعهم على التفكير والتميز..
كان ينبغى أن نبدأ مرحلة جديدة لتطوير الأساليب التعليمية باستخدام التكنولوجيا الحديثة وأن تتوافر هذه الأساليب للتلاميذ بدرجة كافية أن جهاز كمبيوتر واحد لكل مدرسة لا يمكن أن يمثل تطورا حقيقيا كما أن مدرسا واحدا فى المدرسة قادر على استخدام هذا الجهاز لا يكفى..
كان ينبغى أن نضع أولوية خاصة للتكدس الرهيب فى الفصول الدراسية لأنها تحولت إلى ما يشبه علب السردين فى الزحام بين التلاميذ الذين يجلسون على الأرض أحيانا وفى الطرقات معظم الأحيان..
كان ينبغى أن نضع خططا للنهوض بالمواد الأساسية التى تشكل وجدان التلاميذ وتنمى إحساسهم بالانتماء وهى اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية والدينية.. لقد جاءت لنا الوزارة بمادة جديدة اسمها الأخلاق بدلا من التربية الدينية ولا أعتقد أن هناك فارقا كبيرا بين المادتين لأن الدين فى أساسه دعوة أخلاقية قبل أن يكون طقوسا وعبادات..
يجب أن نحافظ على ذاكرة الأجيال الجديدة فى تاريخها وأحداث وطنها وقضايا أمتها..
كان ينبغى أن نبدأ مرحلة جديدة لإعداد مدرس متميز فى فكره وأسلوبه وتعامله مع أدوات العصر، لقد أرسلت وزارة التربية والتعليم بعض البعثات لتدريب المدرسين بالخارج وهذه الأعداد لا تكفى لأن الفساد الذى لحق بمنظومة التعليم فى مصر يحتاج إلى أعداد رهيبة من المدرسين المدربين القادرين على النهوض بالتعليم فى مصر..
بعد ذلك فإن قضية الجوهر هى الأساس وليس الشكل..
لقد كان الوزير حريصا على تحقيق الانضباط فى وزارته وهذا أمر مطلوب ولكن هذا الانضباط لا يمكن أن يعطى نتيجة طيبة أمام جدران تتهاوى.. وزحام لا يطاق ومدرس يكره مهنته ومدرسة تسبح فى المجارى..
إننى أشفق على أحلام وزير التربية والتعليم لأننى أشاركه كل هذه الأحلام ولكن الوزير بدأ رحلته مع التطوير والتحديث بالمظاهر الخارجية رغم أن بيت الداء يكمن فى جوهر الرسالة التعليمية..
نريد المدرس الذى يؤمن بدوره ورسالته ولا يهرول إلى مملكة الدروس الخصوصية..
ونريد التلميذ الذى يحب مدرسته..
ونريد المدرسة التى توفر للتلاميذ قدرا من الإنسانية..
نريد مناهج تعيدنا إلى العصر ولا تجعلنا نهرب منه..
كل هذا يحتاج إلى الوقت والدراسة والإعداد وقبل هذا يحتاج إلى مجتمع يوفر قدرا من العدالة لأبنائه بحيث لا نجد تلميذا يدفع نصف مليون جنيه لكى يدخل المدرسة وآخر لا يجد رغيفا نظيفا يبدأ به يومه الدراسى..
وقبل هذا كله نريد تلاميذ يحبون هذا الوطن ويشعرون أنهم أصحاب حق فيه.. وهذا الإحساس لا يمكن أن يتوافر وهناك من يسكن منتجعات القطامية وآخر يعيش فى منتجعات الخنازير..