فقراء مصر الأربعة

سمية السيد
سمية السيد

آخر تحديث: الثلاثاء 26 سبتمبر 2023 - 9:27 م بتوقيت القاهرة

تعلمنا فى أدبيات العلوم السياسية أن نجاح تجارب التنمية قوامه وجود مشروع سياسى أخلاقى متجاوز للطبقات ويوحدها بحيث يصبح الحفاظ على مصالح الأغنياء مرتبطا بتلبية احتياجات الفقراء وتحسين أوضاعهم. والسؤال الأساسى هنا: ما هو المشروع السياسى الأخلاقى للجمهورية الجديدة؟ فعلى الرغم من توسع الاستثمارات فى البنية التحتية، وتحسن وضع مصر فى بعض المؤشرات الدولية، ومحاولات النهوض بالاقتصاد؛ وفتح باب الحوار الوطنى بين النخب السياسية والإفراج عن عدد كبير من المعتقلين السياسيين، إلا أن ما يربط هذه الإنجازات ما زال غائبا على مستوى الخطاب السياسى. فكل ما نعرفه عن الجمهورية الجديدة هى أنها «الجمهورية الجديدة» فحسب، ولا يمكن للخطاب السياسى الحالى أن يشير إلى كيفية تحقيق المعادلة بين مصالح الأغنياء واحتياجات الفقراء، وكيفية الربط بين ثلاثية المال (دور الأغنياء)، والعلم (دور المثقفين والعلماء)، والأخلاق والقيم (دور الساسة وقادة المجتمع والفكر والرأى ورجال الدين). إن كنت تسأل عزيزى القارئ لماذا ثلاثتهم؟ فدعنى أوجز لك القول بأن إشكالية التنمية فى مصر محورها فراغ المجال العام والذى تأثر بوجود ثلاثة أنواع من الفقراء بجانب فقراء المال والذى يجب على أى مشروع تنموى العمل عليهم، وفيما يلى تفصيلهم.

فقير المال
الأكثر شهرة، هو المختزل فى أرقام المؤسسات الدولية تجده تحت خط أفقى فى هرم رأسى يضغطه يوميا بثقل ارتفاع الأسعار يطلق عليه خط الفقر. هو من لا يجد قوت يومه، أو يستعفف فيعيش يوما بيوم راضيا بحد الكفاف. لا وقت له للانشغال بالشأن العام، فقد احتلت همومه الفردية حيز تفكيره بالكامل فلم تترك له فاتورة الكهرباء وقتا للتفكير فى الانتخابات القادمة، وانشغل بالصراع الدائر بين علاجه ومصروفات ولده الدراسية عن الصراع على السلطة فى النيجر، ووجد فى الحوار بينه وبين ربه ليلا ملاذا آمنا من وعثاء رحلته ومعنى لوجوده ودوره يسليه عن دوره فى المجال العام. فالعوز أفقره من الوقت، فلا يمكن له الحديث عن التوازن ما بين العمل والراحة؛ أو ملاحقة الشغف فى الحياة. هو من يهزم فقره مقولات التنمية البشرية ويثبت فشلها دون أن يحاول ودون أن تقاوم هى.
من الأرجح أن تجده معرفا كجزء من الاقتصاد غير الرسمى، وإن لم يكن فهو من صغار العاملين بالقطاع الحكومى.
لا يمسك فى يده سوى هاتف صينى وربما تجد معه هاتفا لا يتصل بشبكة المعلومات الدولية، وإن ظل شاهدا على جودة ما أنتجته شركة نوكيا فى يوم من الأيام. لا يعلم عن سجالات الرأى العام الإلكترونى شيئا، لا يعلم من هو ترافيس سكوت الذى قامت الدنيا لمنع حفله؛ وإن سألته فهو لا يعلم لم الغضب من لاعب الإسكواش المصرى فهى ليست لعبته المفضلة! ولكنه يحب الساحرة المستديرة، ويرى فى محمد صلاح رمزا وقيمة وتجسيدا لأمل تبدل الأحوال للأفضل حتى أصبح رفض صفقة انتقاله فخرا يشعر به بشكل شخصى، انتصارا لذاته المنسحقة أمام سطوة المال.
عزيزى القارئ: إن كنت تطالع هذا المقال على أحد مواقع التواصل الاجتماعى أو الموقع الرسمى لجريدة الشروق؛ من خلف شاشة هاتفك المحمول أو حاسوبك الشخصى، فهنيئا لك أنت لست هو.
ففى هذا العصر، إن كانت لديك القدرة على الولوج إلى شبكة المعلومات الدولية وكنت من أصحاب الحسابات الشخصية على واحد أو أكثر من مواقع التواصل الاجتماعى؛ فهذا يعنى أن صوتك يمكن له ــ إن شئت ــ أن يعلو وأن يجد جمهورا وربما أن يحدث فارقا. أما هو ــ فالأرجح أنه لا يعلم أن له صوتا سوى فى لجان الانتخابات، التى سيذهب إليها تفاديا للغرامة.

فقير رأى يحدث بفقره ضجيجا
إن توافر وسيلة التعبير عن الرأى (مثل مواقع التواصل الاجتماعى) لا يعنى بالضرورة سداده ــ ولا أعنى بالسداد أن هناك صوابا وخطأ، وإنما مقدمات رصينة لبناء رأى أو حجة ــ ففقر الرأى لا يختلف فى بؤسه عن فقر المال. وفقير الرأى تعرفه باندفاعه للاشتراك فى ماراثون إبداء الرأى، ورغبته فى إثبات الحضور. لا تجد له منطقا وربما تجده يجيد لغة «المفروض» والصوابية السياسية أو الاجتماعية بحسب الموضوع. إن حاججته انكشف جهله. وإن تمعنت، تبهرك الأحكام المسبقة وربما الدوافع الشخصية.
ذو صوت عال، يحدث ضجيجا؛ ولم لا فقد قرأ جزءا من كتاب ذات يوم. لم ينهه، وإن فعل فهو لم يختلف مع ما قرأ قيد أنملة. وبالتأكيد لم يقرأ الكتاب عينه مرتين أو ثلاثة للتعمق. هو المستهلك لكتب المساعدة الذاتية، المتشدق بالإيجابية السامة. هو المتعلم نصف المثقف، الذى ضل المنطق الطريق إليه؛ خطره أشد وطأة من خطر أمى يقر بجهله.

فقير الثقافة والأدب
يأتى على نوعين: الأول هو المؤثر الذى يتابعه الملايين، لتقليد ذوقه فى تنسيق الملابس، وتصفيف الشعر، والتصوير، وأماكن الترفيه والإجازات وتوصيات المطاعم. هو القادر على تسويق الصورة ولذة الطعام واختيارته الشخصية. لست ضد الحرية فى تبادل الخبرات والأذواق، وإنما الاعتراض على تشييع الحياة الشخصية والشواغل الفردية بحيث أصبحت تطغى على كل ما يجب تناوله فى المجال الافتراضى «العام». فأصبح الأفراد يجلسون فى المقاهى لا لمناقشة موضوعات الشأن العام، بل لالتقاط الصورة والتغزل فى ألوان الملابس والشعر. لن أبالغ إن قلت لو كان هابرماس حيا لأعلن موت المجال العام رغم زحف المقاهى والفضاءات العامة.
وإن كان النوع الأول يغيب النقاش العام بتحييده أو تقديم بديل أكثر إمتاعا ــ على الأقل فى الأجل القريب، فإن الثانى يشتته ويفرغه من مضمونه. فالنوع الثانى هو فقير أدب الاختلاف، من يندفع إلى النقاش العام ليهين الشخوص ويسب الأفراد ويكيل الاتهامات دون اقتراب من جوهر القضية المطروحة. هو من تنحط معه النقاشات العامة من كونها ممارسة علنية للعقل إلى تدريب علنى لعضلة اللسان. جهورى لا يختلف فى ضجيجه عن فقير الرأى؛ وربما اجتمع الفقران فى الشخص الواحد.

فقير المواطنة
لأن المواطنة تتعلق بأداء الواجبات المدنية والمطالبة بالحقوق وممارسة الحريات؛ ففقير المواطنة أيضا يأتى على نوعين:
الأول: المتقاعس غير المتقن أو الفاسد الذى لا يؤدى واجباته المدنية تجاه الدولة والمجتمع.
الثانى: السلبى، المتفرج الذى يرى المشهد بكامل تفاصيله ولا يبادر لتصحيح ما يمكن تصحيحه. يؤدى واجباته المدنية، فهو غير ضار على خلاف النوع الأول، غير أنه عازف غير مبادر. هو من بيده أن يكون صوتا لفقراء المال الذين لا صوت لهم، وأن يتصدى لسطحية من يحدث فقره ضجيجا وأن يعيد ضبط بوصلة الحوار مع فقير أدب الاختلاف، وأن يستخدم خدمة الشكاوى الحكومية لتفعيل حقه فى مساءلة فقير المواطنة المتقاعس والفاسد. هو القادر على الاشتباك غير الراغب فيه ربما لأنه لا يجد سببا أو دافعا أو معنا أو خائفا. ولذا، فهو خط الدفاع الأول لإعادة بناء المجال العام وواجب على الدولة تشجيعه وتأمين دوره.
• • •
صحيح أن لكل فقير على حدة سياساته: ففقير المال يحتاج إلى سياسات اقتصادية، وفقير الرأى والأخلاق بحاجة إلى سياسات تعليمية وثقافية؛ وفقير المواطنة السلبى فهو بحاجة لإطار سياسى ممكن يشجعه على القيام بدوره والانخراط فى مؤسسات المجتمع المدنى ليكون عونا للدولة فى تحقيق خططها التنموية. غير أن الإشكالية الكبرى فى أن الفرد الواحد قد يجمع بين أكثر من فقرين، وجميعنا ــ وأنا معكم ــ فقراء مواطنة سلبيون إلا من رحم ربى؛ فما بالكم بشعب كامل؟ ربما هذا ما يجعل طرح التساؤل حول ملامح الجمهورية الجديدة كمشروع سياسى أخلاقى والصيغة التى ستتحقق بها العلاقة العابرة والجامعة للطبقات، واجبا.
لا أملك إجابة وتقديم واحدة ليس أمرا يسيرا هينا، ولكن يكفى أن نقول إن الحوار الوطنى قد يكون مجالا مناسبا لطرح هذه التساؤلات إن لم تكن طرحت بالفعل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved