جنازة عسكرية للزعيم أحمد عرابى
أيمن النحراوى
آخر تحديث:
الثلاثاء 26 سبتمبر 2023 - 7:50 م
بتوقيت القاهرة
بقدر ما يعتبر شهر أكتوبر من كل عام هو شهر النصر فى حرب أكتوبر 1973، يعتبر شهر سبتمبر هو شهر أحمد عرابى وأحداث الثورة العرابية، حتى وفاة الزعيم أحمد عرابى كانت فى سبتمبر.
أحمد عرابى هو شخصية وطنية كبرى ورمز خالد من رموز مصر، باتت حياته الشاقة فصلا حافلا من فصول حياة وتاريخ مصر، ذلك الرجل الذى خرج من أعماق الريف المصرى حيث ينتمى آباؤه وأجداده، ليصبح فى مقدمة رجال العسكرية المصرية فى عصره.
وقف عرابى فى مواجهة تغول الأتراك والجراكسة الذين أقحمهم محمد على وخلفاؤه فى الجيش المصرى، وقف وحيدا فى وقت كانت الحكومة المصرية يهيمن عليها الأتراك والأرمن والجراكسة، كان أحمد عرابى آنذاك هو المصرى الأول، بعد دهر طويل، الذى يقف متحدثا باسم مصر، مجبرا الخديوى توفيق على النزول إليه يوم عابدين ليسمعه كلمة الأمة، وليواجه الخديوى الذى نزل يتحدث إليه مستقويا بمن حوله من قناصل الدول الكبرى وممثليها.
وجه عرابى كلماته للخديوى قائلا: جئنا نعرض عليك طلبات الجيش والأمة، كلها طلبات عادلة، إسقاط الوزارة المستبدة، وتشكيل مجلس نواب على النسق الأوروبى، وإبلاغ عدد الجيش إلى العدد المعين فى الفرمانات السلطانية، والتصديق على القوانين العسكرية، فقال الخديوى: كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائى وأجدادى، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا.
كان رد عرابى على ما قاله الخديوى هو أروع ما قيل فى ذلك اليوم التاريخى وسائر الأيام، كلماته الشجاعة القوية التى صكت آذان الخديوى: لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقارا، ووالله الذى لا إله إلا هو إننا لن نورث ولا نستعبد بعد اليوم.
• • •
لو كان هذا وحسب ما فعله أحمد عرابى لكان يكفيه شرفا وفخرا، لكن عرابى وقف وقفته البطولية أمام التربص الإنجليزى بمصر، والذى كان بمثابة الفصل الأول فى المخطط الإنجليزى لغزو واحتلال مصر، فلم يرضخ لتهديدات قائد الأسطول الإنجليزى ورفض مطلبه باستسلام حصون الإسكندرية ورفع الرايات البيضاء عليها، وأخذ فى تعزيز دفاعاتها بكل ما يقدر عليه.
لكن ماذا تفعل المدافع القديمة التى أحضرها محمد على منذ خمسين عاما فى مواجهة مدافع الأسطول الإنجليزى الذى كان وقتها القوة البحرية الأولى فى العالم؟ خمس عشر سفينة مدججة بمدافع أرمسترونج الضخمة دكت حصون ومبانى الإسكندرية وسوتها بالأرض.
وفى وقت سارع الخديوى فيه للجوء لحماية الأسطول الإنجليزى فى الإسكندرية، وإعلانه عدم موافقته على ما يقوم به الجيش المصرى فى مواجهتهم، رغم ذلك تمكن أحمد عرابى من الوقوف فى مواجهة الإنجليز وإقامة استحكامات قوية عند كفر الدوار، وكبدهم خسائر فادحة حالت دون وصولهم إلى القاهرة فتراجعوا على أعقابهم إلى الإسكندرية.
فى كفاحه ضد الغزاة الإنجليز، فكر أحمد عرابى فى سد مدخل قناة السويس حتى لا تدخل منها السفن الحربية الإنجليزية، لكن ديليسبس تمكن من الحيلولة دون ذلك بدعوى أن القناة محايدة، ولا يمكن للسفن الحربية الإنجليزية استخدامها فى عمليات عسكرية ضد مصر.
لم يكن خذلان الخديوى وخداع ديليسبس فقط هو ما واجهه أحمد عرابى، بل ضغطت إنجلترا وفرنسا على السلطان العثمانى الضعيف ليصدر فى ذلك الظرف العصيب فرمانا بأن عرابى عاصٍ وخارج عن الطاعة، وأن من يتبعه فى أعماله هو عاصٍ مثله، وسيلقى جزاءه.
كل ذلك لم يفت فى عضد أحمد عرابى ولا عزيمته، ولا من التف حوله من المخلصين من قادة الجيش المصرى وجنوده الأبطال، وبعدما دخلت السفن الإنجليزية إلى قناة السويس، سارع بإقامة دفاعاته عند التل الكبير، بينما جاءت للإنجليز المزيد من السفن من مالطة وقبرص تحمل آلاف الجنود، وسفن أخرى من الهند تحمل آلاف الجنود الهنود والنيباليين لتعزيز القوات الإنجليزية الغازية.
فى التل الكبير لم تجر معركة حربية بالمعنى المفهوم، لكن جرت وقائع للخيانة فى أخس صورها، خيانة البدو الأعراب الذين دفع لهم الإنجليز الرشاوى من الذهب، وخيانة بعض ضعاف النفوس من السياسيين الذين أخذوا جانب الخديوى وأخذوا فى خذلان الناس وعرابى، وبعض الخونة المرتشين من الضباط ذوى الأصول التركية والشركسية الذين أرسل إليهم الخديوى يعدهم بالمناصب والأراضى والأملاك والأموال إذا تقاعسوا عن القتال إلى جانب عرابى.
لم تكن التل الكبير سوى انتصار الغدر والخيانة على الوطنية والشرف، لذلك فالموروث الشعبى المصرى بعدها ولسنوات طويلة ظل يردد المقولة الشهيرة: «الولس هزم عرابى»، أى الموالسة والخيانة قد هزمت عرابى.
بعد أن قبض الإنجليز على أحمد عرابى، تحمل فى سجنه أقسى أنواع الإهانات من أزلام وأغاوات الخديوى الخائن الذين كانوا يأتون إلى زنزاته فى منتصف الليل ليوقظونه ويسمعونه أحط السباب وأقذر الألفاظ، تحمل عرابى كل ذلك فى صبر واحتساب.
• • •
ثم كانت المحنة الكبرى التى تحملها أحمد عرابى وزملاؤه القادة الأبطال عند نفيهم بعيدا عن أرض الوطن إلى جزيرة سيلان، فأمضوا عشرين عاما فى منفاهم يصارعون فى كل يوم حنينهم إلى مصر.
بعد عودته من المنفى، كان أشد ما يتألم منه هو وأولاده ضيق ذات يده، فمعاشه البسيط الذى سمحت به الحكومة والاحتلال الإنجليزى لم يكن يكفيه هو وأسرته، فظل على هذه المعاناة هو وأسرته حتى أيامه الأخيرة.
حين توفى عرابى لم يكن لدى أولاده من المال ما يكفى لتجهيزه ودفنه، فاضطروا إلى تأجيل إعلان نبأ وفاته إلى اليوم التالى حتى يقبضوا معاشه، إذ صرفت الحكومة المرتبات والمعاشات فى هذا اليوم بمناسبة عيد الفطر.
لكن سرعان ما ترامت الأنباء فى القاهرة بوفاة الزعيم البطل، لم يصحب جثمانه إلى مثواه الأخير أو يحضر مأتمه أى شخصية رسمية، لكن مصر العظيمة الوفية أبت إلا أن تكرمه تكريما يليق به يوم تشييعه، فتجمع آلاف المصريين أمام منزله وأحاطوا بنعشه يسيرون من حوله وخلفه فى صمت مهيب، وعلى طول الطريق كان الآلاف ينضمون لهم، فتألفت جنازة شعبية عظيمة، سارت من داره بالمنيرة حتى وورى الثرى فى مثواه بالإمام الشافعى.
هناك يرقد جثمانه فى قبر بسيط وحيدا بعيدا لا يعرفه إلا أفراد قلائل، وهو الذى كان جديرا بأن يزوره كل مصرى ويترحم عليه ويقرأ له الفاتحة، ولو كان فى بلد آخر لأقاموا له ضريحا كبيرا يليق به وبجهاده العظيم.
هذه حياة وممات الزعيم البطل أحمد عرابى، هذه أقرب إلى كونها ملحمة أسطورية من الكفاح والجهاد من أجل مصر.
من أجل ذلك كله، أوجه دعوة ونداء إلى سيادة الرئيس السيسى بأن يكون جثمان الزعيم أحمد عرابى هو أول جثمان يدفن فى مقبرة الخالدين، وأن ينقل إلى هناك فى جنازة عسكرية مهيبة تليق به وبجهاده العظيم.