الأساطير المؤسسة للسياسة الاقتصادية في عصر نظيف
وائل جمال
آخر تحديث:
الثلاثاء 26 أكتوبر 2010 - 12:07 م
بتوقيت القاهرة
النمو أولاً .. والباقي يأتي لاحقاً
تقول الفقرة الأولى فى كتاب أصدره البنك الدولى منتصف الشهر الماضى عن الاقتصاد العالمى، تحت عنوان «اليوم الذى يتلو الغد»، ما يلى: «لم تغير الأزمة المالية العالمية فى 2008 و2009 النظام الاقتصادى العالمى فقط وإنما أيضا طريقة تفكيرنا بخصوصه. المبادئ والممارسات التى كانت حكمة مقبولة صارت محل شك أو بلا مصداقية. وانفتحت أمامنا أسئلة أساسية جديدة لم يكد البحث عن إجاباتها يبدأ». وتبقى السياسة الاقتصادية المصرية محصنة بستار كثيف من المصالح، ستار فكرى وايديولوجى، ضد الشك والأسئلة.
فى المؤتمر الثانى للحزب الوطنى الديمقراطى، الذى انعقد بعد شهرين من وصول حكومة نظيف للحكم، علق وزير المالية يوسف بطرس غالى على مشروع تخفيضات جمركية وضريبية، اقرها مجلس الشعب لاحقا قائلا: «لا اعتقد ان الامر يحتاج سنينا لكى تسقط ثمار آثار تلك الاصلاحات على المواطن العادى. وإن كان القانون يحتاج إلى ما بين 5 و6 شهور ليتم تفعيله فإن التغيير بدأ فورا».
ولم ينس غالى التأكيد على المنطق الأساسى لهذه العملية وهو دفع النمو الاقتصادى بتحفيز أرباح واستثمارات القطاع الخاص وهو ما من شأنه خلق الوظائف وتحسين الدخول وتقليص الفقر وتحقيق تطور تنموى للمجتمع كله.وكنا قد تصورنا أن هذا الموقف تغير فى ابريل الماضى مع تصريحات لوزير الاستثمار محمود محيى الدين، أعلن فيها «نهاية هذه النظرية» قائلا إنه لا توسيع لتوزيع ثمار النمو الاقتصادى، الذى باتت الاغلبية فى الحكم مقتنعة انها لم تصل لعموم المصريين، دون تغييرات ضريبية تأخذ من الأغنياء وتدخل للدولة.
لكن وزير التنمية الاقتصادية، عثمان محمد عثمان، عاد يوم الجمعة الماضى ليؤكد من العين السخنة (وهى للمفارقة نفس البقعة التى تحدث منها محيى الدين الذى لم يعد وزيرا)، وفى ندوة عن دور القطاع الخاص فى التنمية، أنه لا يمكن تحقيق عدالة فى توزيع الدخل دون أن نحقق نموا مرتفعا.
وبعد أن نفى أن «تكون الحكومة قد تبنت فى أى من الأوقات نظرية تساقط الثمار» عاد ليردد مقولتها الأساسية قائلا: «ليس معنى العدل الاجتماعى أن نأخذ من الغنى لنعطى الفقير أو نأخذ قطعة من الكعكة لتعطيها لفئة أخرى ولكن أن نزيد من حجم الكعكة التى نقوم بتوزيعها». وأعلن الوزير أن خطة تنمية مصر فى ال 6 سنوات المقبلة تستهدف مضاعفة الناتج المحلى الاجمالى عبر زيادة استثمارات القطاع الخاص مما يقرب من 100 مليار جنيه حاليا إلى 500 مليار فى 2016/2017.
هذا التوجه يقوم على أسس سادت السياسة الاقتصادية العالمية منذ نهاية الثمانينيات وتعرضت لضربات متلاحقة فى السنوات الأخيرة توجتها الأزمة العالمية، التى تسببت فى سقوط مدو لليبرالية حرية الأسواق اللامحدودة، التى قيل إنها الأكفأ والأقدر على تحقيق رفاه البشر.
ولم يعد أحد فى حاجة لاثبات أن الصلة بين نمو الناتج المحلى الاجمالى والتنمية (تنمية البشر) ليست مثالية ولا مؤكدة. فبلدان الشمال الاوروبى كفنلندا والنرويج لا تتصدر العالم من حيث متوسط نصيب الفرد منه ولا معدلات نموه. لكنها تحتل مكانة متقدمة للغاية على مؤشر التنمية الانسانية الخاص بالبرنامج الانمائى للأمم المتحدة.
ويقول هذا بشكل واضح إنها أكثر كفاءة فى ترجمة النمو إلى رفاهة حقيقة للناس بفضل خدمات امة مكثفة تمولها ضرائب مرتفعة، بينما هناك دول كالولايات المتحدة وبريطانيا، تحتل موقعا متقدما من حيث متوسط نصيب الفرد (الذى لا يكشف الفجوة بين الاعلى دخلا والاقل دخلا)، ومكانا متأخرا بالنسبة لمجموعة الدول الأولى على مؤشر التنمية. وتطبق هذه الدول، الأقل كفاءة فى تحويل النمو إلى الناس، معدلات ضريبية منخفضة نسبيا وبرامج اجتماعية أضعف.
تأتى هذه المفارقة من أن سياسات الدول التى تتبنى حرية الأسواق على طريقة نمو الأرباح أولا، تميل للانحياز لمناخ الاستثمار «الجيد» على حساب أى شىء آخر. دول الليبرالية الجديدة تفضل سلامة النظام المالى وسيولة المؤسسات المالية على ظروف السكان وسلامة البيئة.
وضاعف من حدة هذه المشكلة تطوران مهمان. الأول هو أن مقياس الناتج المحلى الاجمالى ونموه، الذى تعطيه حكومة مصر الأولوية، أصبح محل شك، بسبب قصوره فى قياس كل الأنشطة الانتاجية والخدمية. وصار هناك شك كبير فى أنه يعطى صورة حقيقية لانتاجية المجتمع ورفاهيته.
هذه الانتقادات القديمة تحولت مؤخرا إلى تحرك شمل العديد من الحكومات، وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا، لاعادة النظر فيه. وتعكف مجموعات من الخبراء الاقتصاديين الكبار منهم عدد من الحائزين على جائزة نوبل فى الاقتصاد كأمارتيا سن وجوزيف ستيجلتز، على اعداد مؤشر آخر أكثر قدرة على قياس حقيقة عيش الناس وإنتاجهم. ويقول اقتصاديون بعضهم منتمون لمنظمة التعاون الاقتصادى والتنمية إن الاعتماد على الناتج المحلى لم يعط فقط صورة مغلوطة عن الأوضاع الاقتصادية لكنه أيضا «حرف اتجاه اهداف السياسة فى العالم نحو مطاردة بلا عقل للنمو الاقتصادي»، كما يقول الكاتب فى نيويورك تايمز جون جيرتنر.
أما التطور الثانى، فهو الظهور والنجاح النسبى لما يسمى «الدولة التنموية» كماليزيا فى آسيا وبرازيل لولا داسيلفا. فهذه الدول تعتمد على القطاع العام والدولة والتخطيط الحكومى مع تنسيق وثيق مع الشركات المحلية والعالمية لدفع التراكم الرأسمالى عبر النمو. وتعطى الدول التنموية اهتماما خاصا للبنية الأساسية الاجتماعية والمادية على حد سواء، وهو ما يعنى سياسات تحقق درجة أعلى بكثير من المساواة عبر تسهيل الحصول على فرص التعليم والعناية الصحية للكل عبر استثمارات حكومية كثيفة فى المجالين.
يضاف إلى ذلك ما يحدثه النمو المدفوع بأرباح الشركات الكبرى من آثار بيئية خطيرة تضع حدودا حتمية له فى المستقبل مع ثمن باهظ تدفعه الأجيال القادمة. ولسنا بعيدين عن هذا بما يحاصرنا فى مصر من أزمات ندرة فى المصادر الطبيعية من الطاقة للمياه.
ويقول كتاب محرر صدر العام الماضى لعدد من الكتاب الآسيويين، بعنوان الديمقراطية الاقتصادية عبر النمو المنحاز للفقراء، إن منظور تساقط الثمار قد سقط نهائيا، مناديا بتبنى منظور فكرى جديد، لم يعد بعيدا عن أجندة الحكومات، ديمقراطية كانت أم لم تكن.
«إذا كنا فشلنا فى تقليل الفقر بدفع معدل النمو أولا لماذا لا نجرب مدخلا جديدا: فلنقض على الفقر أولا ولنر ما إذا كان ذلك سيدفعنا إلى مسار نمو أعلى وأكثر استدامة؟». ويقول الكتاب إن الفقراء ليسوا قليلى الكفاءة وإنهم يساهمون بالفعل فى النمو الاقتصادى، حتى إن تجاهلهم مؤشر نمو الناتج المحلى الاجمالى، ولو حصلوا على التعليم والصحة لساهموا بالمزيد «بكل تأكيد». ولا ينسى الكتاب حقوق الفقراء السياسية فى الحصول على احتياجاتهم الأساسية، وعلى المعلومات، وعلى «العدالة».
تساقط الثمار على طريقة حكومتنا لم يعد خيارا رائجا فى عالم الرأسمالية. النمو لا يرفع معه كل المراكب. بل ُيغرق أغلبها. أما ما يسقط من فتات من على موائد أصحاب الشركات الكبرى، فلا يريده أحد.