علبة الشجن
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 26 أكتوبر 2022 - 8:20 م
بتوقيت القاهرة
فتحت العلبة المستطيلة التى كتب على غطائها اسم محل حلويات واستنشقت ملء قلبى من سنوات عشتها فى دمشق. لم أعرف إن كان فعلا هناك رائحة خرجت من العلبة أم أن رؤيتى لمحتواها أثارت فى ذاكرتى رائحة خليط سكرى صعب على أن أحدد مكوناتها. حركت محتوى العلبة فظهرت قارورة عطر صغيرة كالتى كثيرا ما كان يعطيها عطارو السوق القديم هدية، ويحلفون أن بضع نقاط منها على قطعة من القطن ستملأ الخزانة برائحة الفل. لا أذكر متى حصلت على القارورة المذهبة، ربما فى آخر زيارة لى قبل الحرب.
• • •
كان صباحا مزدحما أحاول أن أرتب فيه دقائقى الأخيرة مع أولادى قبل السفر وكانت العلبة تجلس على سريرى تجذبنى كالنداهة وأنا أحاول أن أتجنبها. وصلتنى العلبة من دمشق فى الليلة السابقة وتركتها بحالها إذ لم أفهم فى البدء ما أرسلته والدتى. ثم رفعت الغطاء وكأننى فتحت باب البيت فوجدته ممتلئا بالضيوف. فجأة وجدتنى أبحث بين قطع من الفضة عن سنوات بعيدة اختبأت بين الحلى. هذه قلادة أهدانى إياها خالى فى عيد ميلاد وهذا خاتم أخذته من أمى، هناك أيضا مشط فضى استخدمته مرة واحدة فى مناسبة عائلية لا أذكر من أين حصلت عليه.
• • •
لقاء كهذا لا يجب أن يكون تلقائيا. كان على أن أعطى العلبة ونفسى وقتا لنتحسس غربتنا قبل أن نفتح حديثا عن العطار ومحله فى السوق القديم. ما علينا ها قد رفعت الغطاء فغمرتنى رائحة مكان وزمان ظننت أننى تجاوزتهما. تبقى الرائحة أكبر دليل على عدم النسيان، وأوضح تذكير أنه تناسيا وليس نسيانا.
• • •
بالأمس تحدثت مع أمى وسألتها عن تفاصيل فى بيتنا وعن أشخاص لطالما شكلوا جزءا كبيرا من ذاكرتى عن المكان. فهمت أن المكان تغير كثيرا ولم يتغير، هل تعرفون ما أعنيه؟ أى أن تجاعيد دقيقة وعميقة دخلت على المدينة فصارت أرصفتها كأسنان عجوز كانت يوما جميلة، نعرف أن هذا كان رصيفا وهذا كان وجها صبوحا لكنهما، أى الوجه والرصيف، قد تغيرا كثيرا إلا فى عيون من أحبهما، كأمى مثلا حين تلتقى بالمدينة وبصديقاتها بعد فراق.
• • •
تحركت أصابعى بسرعة فى العلبة وكأننى أبحث عن حلية بعينها، كنت أبحث عن قطعة من نفسى تركتها فى البيت. لم أجدها فى العلبة. يبدو أنها ما زالت هناك تنتظرنى أن أعود إليها. كثيرا ما أتساءل لماذا ما زلت أشتاق إلى البيت والحارة والبقال والشارع والجيران، رغم بيوت وحارات وجيران تبنونى فى بلاد عدة منذ رحلت عن حارتى؟. لماذا أصر على أن أخلق عند أولادى ذاكرة بصرية لم يصنعوها بأنفسهم إذ لم يزوروا دمشق منذ أن كانوا فى سنواتهم الأولى ولا يتذكرون معالمها؟
• • •
أفكر بأصدقاء فلسطينيين لم يزوروا «البلاد» كما يسمونها قط لكنهم يصفون تفاصيلها وارتباطهم بها. أفكر بأصدقاء آخرين تجاوزوا ارتباطهم بالبلد الأم ولا يحاولون الالتفات إلى سنواتهم فيه. لا أعرف إن كان من الأسهل أن نعيد تشكيل هوياتنا بعيدا عن بلد المنشأ، ألسنا فى تحول مستمر وتفاعل دائم ببيئاتنا الجديدة؟ الشوق كطوق يمسكنى من رقبتى هو طوق مربوط بحبل طويل، يسمح لى أن أمشى مسافة أظن فيها أننى حرة حتى ينبهنى الحبل أننى لن أبتعد أكثر فيضغط على عنقى.
• • •
أتابع صفحات افتراضية عديدة لمجموعات سورية فى المهجر، تتفاوت الآراء كثيرا حول الهوية والارتباط بالأماكن، تكثر النقاشات حول مفهوم الغربة والشوق ورومانسيتهما بالمقارنة مع صعوبة الحياة اليومية. يبدو الشوق أحيانا كأنه ترف، أليس كذلك؟ يعج الفضاء الأزرق بمجموعات للطبخ والأمثال والعادات والمفردات من مدن سوريا المختلفة، صفحات عن التاريخ والزمن الجميل والأقل جمالا، صفحات من الشوق ومن التهكم والسخرية، أظن أساسها جميعها نوعا من الشوق.
• • •
سألت ابنى أخيرا عن صديق له لا يتحدث العربية، فقد استنكرت لجوءه الدائم إلى اللغات الأجنبية وهو عربى يعيش فى بلد عربى، فقال إنه (أى صديقه) لا يخضع لتذكير يومى أننا فى الشام نقول هذه الكلمة ونأكل هذا الطبق ونبارك ونعزى بهذه الطريقة. يؤكد ابنى أننى لا أتوقف عن محاولة تأكيد «شامية» هويتهم، وصف لى إصرارى على قولبتهم، أى أطفالى الثلاثة، رغم بعدهم عن الشام!
• • •
فى العلبة أظن أننى وجدت أجزاء منى بالفعل يبدو أننى وضعتها فى الحفظ قبل أن أغادر. فى صباحى المزدحم لم أكن جاهزة لتلقى أجزاء من حياتى وحياة أمى وأبى. كان يجب على أن أحضر للقاء أو أن أفتح العلبة فى حضور أحدهما وليس وحدى. فهما قطعا سوف يشاركانى الدهشة والفرح والشجن والحزن أمام كل قطعة أخرجها من العلبة. لا يجب أن أعيش الشوق وأنا وحدى أمام ما وصلنى من دمشق، الشوق يجب أن يعاش مع مشتاق آخر حتى تتحول اللحظة إلى شجن وألفة.
كاتبة سورية