القطط التى كشفت المجتمع!
محمود عبد الشكور
آخر تحديث:
السبت 26 أكتوبر 2024 - 6:50 م
بتوقيت القاهرة
أحب الروايات الذكية الماكرة التى تحقق مطلب الفن فى أن يقول ما يريد بطريقةٍ غير مباشرة، والتى تستدعى الماضى لتقول شيئًا عن الحاضر، والتى تستخدم المجاز بطريقة خلَّاقة ومبدعة، وتجعل من نماذجها البشرية، عناوين على أفكار وتيارات.
تحقق ذلك إلى حد كبير فى الرواية الصادرة عن دار الشروق بعنوان «سنة القطط السمان» للروائى الكويتى عبد الوهاب الحمادى، الذى لا يتخلى فى أعماله، عن نظرة انتقادية ساخرة ومريرة معًا.
مؤرّقٌ هو بتغيرات مجتمعه، وظهور تيارات تنغلق على الذات، وتتشكك فى الآخر، وتخاف من الاستنارة، ومشغولٌ أيضًا بالتاريخ، وبنظرتنا المتجاهلة لأحداثه، وبالاختلال الذى تحدثه الثروة والمادة، فى مجتمع صغير.
فى الرواية الجديدة استدعاء ذكى للتاريخ، ولواقعة حقيقية تبدو بسيطة وعابرة وعادية، ولكنها تقودنا بمعالجةٍ بارعة، إلى تفكيك المجتمع الكويتى فى لحظةٍ فارقة: ما بين مرحلة كساد تجارة اللؤلؤ الطبيعى، بعد ظهور اللؤلؤ الصناعى اليابانى، ومرحلة تنقيب الإنجليز فى الصحراء عن النفط، أى أننا فى مرحلة وسطى بين ثروتين، إحداهما غاربة، والثانية قادمة، ستغيّر وجه الحياة إلى الأبد.
أما الحادثةُ الحقيقية، التى يشيد عليها عبد الوهاب روايته، فهى اتهام صاحب مطعم هندى للمشويات فى الكويت فى العام 1937، بذبح القطط، وبيع لحومها على أنها لحوم أغنام، وهى كما نرى، قضية غش تجارى فى أفضل الأحوال، لا تعد بالكثير، ولا تستحق سوى سطور قصيرة فى صفحة الحوادث.
لكن المعالجة أخذت الحادثة إلى آفاقٍ أوسع، فصاحب المطعم الأجنبى يتيح قراءة العلاقة مع الآخر، والنظرة إليه، كما أن العام 1937 يترجم هذه المرحلة المفصلية الانتقالية من كساد اللؤلؤ إلى ثراء النفط، كما أنه يسمح بتحليل ذلك الصراع الكامن بين أفكار الحداثة، وأفكار المحافظين والمتشددين، بين البقاء وراء سور الكويت، أو الخروج إلى المحيط العربى.
ولكن التطوير الأهم للفكرة جاء باستخدام مجاز القطط على مستوى آخر، أى بالانتقال من قطط المطعم الهندى، واختبار مدى مصداقية أو تهافت اتهام هذا الأجنبى، إلى مصطلح «القطط السمان»، الذى احتل عنوان الرواية، وهو مصطلح أمريكى فى الأصل، يشير إلى رجال البيزنس الفاسدين، وقد استخدمه نجيب محفوظ فى عنوان قصة قصيرة، تحولت إلى فيلم، للإشارة إلى من أثروا بطرق مشبوهة، فى ظل فوضى الانفتاح.
لو ظلت قطط المطعم فى حيز الحادثة البسيطة، لما انتقلت الرواية إلى مستوى آخر، ولأصبحنا فقط أمام حكاية بوليسية، ولكن الحادثة صارت منطلقا لتفكيكٍ كامل وعميق لمجتمع فى لحظة تاريخية فاصلة، وأصبحت وسيلة لقراءة أعمق لأفكار وتيارات، ما زالت تتفاعل فى الحاضر، مثلما تفاعلت فى الماضى.
قطط مطعم عبد المطلب الهندستانى ستأخذنا إلى بطل الرواية «مساعد»، الشاب المتعلم، الذى يعمل كاتب حسابات عند تاجر كبير، ويعمل أيضًا سكرتيرًا ومترجمًا للمعتمد البريطانى ديجورى، ومساعد سيأخذنا أيضًا إلى أصدقائه، وكل منهم يمثل اتجاهًا، وهم بدورهم سيأخذوننا إلى أستاذهم الشاعر الضرير المستنير صقر بن شبيب.
• • •
يمكن القول إننا أمام تيار يريد التغيير والتحديث، فى مواجهة صوت المحافظة والتشدد الذى يمثله شيخ الجامع المُلّا الفالح، تيار يتحدث لغة الأدب والشعر، فى مواجهة لغة البيزنس التى يمثلها منصور الذى يعمل لديه مساعد، أما عموم المجتمع فهم يعانون من الفقر، وتطاردهم الكوارث الطبيعية، بينما هناك من يبحثون عن النفط، دون نتائج مؤكدة.
مساعد هو وتد خيمة النص، وهو شخصية خائفة ومترددة بين معسكر البيزنس والمعتمد من ناحية، ومعسكر صقر بن شبيب، وفتيان مقهى الزنّان، وأصدقائه بينهم من يرث المُلاّ الفالح، ومن يدعو للقومية العربية، ونصرة فلسطين، ومنهم من يلعب معه دور الحامى والمساند، وسيؤدى طموح مساعد، إلى تورطه فى صفقة مع الهندستانى، ستهدِّد ما ورثه من منزل أبيه، ومن منزل زوجته أيضًا.
تعمل هذه الشبكة من العلاقات على فضح علاقة رجل البيزنس، وذئب الثروة منصور، برجل الدين الفالح، وبرجال السلطة، وبالمعتمد البريطانى، وتعمل أيضا على اكتشاف العلاقة مع الآخر، وتحليل مؤامرة إبعاد الأجنبى وطرده، وترصد أيضًا آليات السيطرة دون احتلال صريح، كما أنها تضع هذا المجتمع الفقير بين خيار الانغلاق وخيار الانفتاح، وبين عالم الفكر، وعالم الثروة.
يبدو مساعد كما لو كان فى مفترق طرق، عليه أن يختار بين أن يكون من قطط الشوارع العجفاء، أو أن يكون قطا سمينا، وقد اختار فعلًا، وإن كانت الرواية قد حلّت مشاكلة جميعًا دفعة واحدة، وبطريقة ضربات الحظ والقدر، فلم يكن انفتاح الطريق أمامه بطريقة محكمة، على عكس منهج السرد من بدايته.
كان الأمر فى حاجة إلى إتقان هذا التحول، ذلك أن عالم البيزنس لا يعتمد على الحظ فقط، بل هو أيضًا قرين «مؤامرات معقدة»، رأينا جزءًا منها فى مسألة مطعم الهندستانى، وسهولة خروج مساعد من مأزقه، بعد ذروة قوية وخطيرة، إنما هو نقيض منطق المؤامرة.
لكن الحمّادى يطور فى هذه الرواية تقنياته السردية، ويضفر صوت الراوى العليم بضمير المخاطب، الذى يكشف انقسامًا لذات مساعد على نفسها، بل ويستخدم أيضًا تيار الوعى، وصوت الداخل، ولغته فنية رصينة، تحتفل بالصورة وبالأماكن، وتبعث الكويت فى العام 1937 بكل تفاصيلها.
تظهر القطط على مدار النص، وفى كل مكان، وبأشكالٍ مختلفة، وبينما ترتبط عقدة الرواية بشخصية عبد المطلب مهين الهندستانى، صاحب المطعم محل الواقعة، إلا أنه لا يحكى، ولا يسرد، بل نسمع عنه من الجميع، فكأن هذا الغريب لا صوت له، وهى لمسة أخرى ذكية.
سيلزم مساعد وصية والده بأن يعيش فى ظل رجال الثروة، وسينتهى زمن صيد اللؤلؤ، ليفسح الطريق لصيد النفط، وسيبدأ صراع الثروات والأفكار، وصراع السور فى مقابل البحر.
ولكن يبقى سؤال الرواية الأخطر، وهو:
هل كانت سنة واحدة للقطط السمان، أم أنها سنوات ممتدة حتى اليوم؟