الغضب وما بعده
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 26 نوفمبر 2015 - 8:05 ص
بتوقيت القاهرة
انحسرت مرحلة النقد البناء والنصائح المخلصة والعتاب الهادئ والعمل السلمى من خلال ما تيسر من منافذ إعلامية وما تبقى من منظمات مجتمع مدنى، وحلت مرحلة الغضب. انتهت، أو كادت تنتهى، مرحلة الاعتدال فى السياسة وفى المطالب وفى الأمل فى الإصلاح وفى تجاوز أزمات الاقتصاد أو الصبر عليها. تبددت طاقة تحمل الشعب والقوى المسيسة أخطاء الحكام وإصرارهم على استمرار ارتكابها، وتبددت طاقة تحمله سخافات الدول الأخرى، حليفة كانت أم شقيقة أم من الجوار، وتبددت معها طاقة تحمل رؤية الدم والاستماع إلى قصص التعذيب والقمع ومشاهدة وحشية التعامل مع أبناء وبنات شعوب مهيضة الجناح، لاجئون مسالمون عابرون للحدود سعيا وراء رزق أو حرية، أبناء وبنات جيل العولمة نشأوا على صدى وعود الانفتاح والخير الوفير.
***
هناك، فى الغرب وفى الشرق، وهنا فى بلادى، انتهت أو كادت تنتهى مراحل تجارب وانتقال طويلة، وبدأت أو تكاد تبدأ مرحلة غضب أشعر أنه سيكون قويا وعنيفا، بقوة وعنف «الثورة المناخية»، التى تهدد اليوم بيئة العالم. عندما أرى حكام خمسة وعشرين ولاية أمريكية يقسمون على منع لاجئين مسلمين من دخول ولاياتهم، أعرف أن الغضب قد حل بالفعل محل العقل وأزاح التفكير الهادئ وتغلب على المشاعر الإنسانية وتنكر للقيم الأمريكية، يحدث هذا فى دولة قامت مؤسساتها وعقيدتها على مبدأ الهجرة، دولة عظمى هى نفسها ثمرة هجرات عديدة توالت وتلاحقت وانصهرت فى شكل أمة كانت محل غيرة وحسد عديد الأمم. المعنى بسيط ومخيف فى آن واحد. هذه الأمة، وأمم أخرى، وصلت إلى درجة غضب يمكن ان تدفعها نحو اكتئاب عنيف ومنه إلى شكل أو آخر من أشكال الانتحار. ولن تكون، حينئذ، أول أمم تنتحر، فالأمثلة فى العالم عديدة، وفى منطقتنا بالذات وفيرة.
***
عندما ترى قارة بأسرها تستعيد فى لحظة واحدة مريرة، أسوأ ذكريات تاريخها. تستعيد ذكرى غزوات المسلمين لأراضيها، واستطاعت فى فترة قصيرة ولكن بتضحيات كبيرة، صد هذه الغزوات. عندما أرى أوروبا من أقصى حدودها الشرقية إلى أقصى شواطئها الغربية فى بريطانيا وأيرلندا واسكتلندا وايبيريا وقد سيطر على شعوبها الرعب والخوف، ثم هيمن على معنوياتها قدر هائل من اليأس بسبب تخبط حكامها وافتقادهم إلى حكمة الأجداد وضرورات الاتحاد، بل تراهم مستعدين للتنازل عن مكتسباتهم فى الاندماج والتقدم. عندما أرى أوروبا بشعوبها وقادتها فى هذه الحال، أعرف أن البدائل العاقلة ومبادئ التسامح والاعتدال والوسطية ونظريات استدامة التنمية والسلام والانفتاح كلها تخلى مكانها لكل ما هو متشدد وعنيف ومشتبك مع الآخر، وأعرف أيضا أن الغرب كله انكشف على أزمة حادة ولم تعد توجد لديه قوة أو حنكة الاستمرار فى إخفائها، ولا قوة أو حنكة مواجهتها والانتصار عليها فى معركته معها.
***
أنظر إلى الغرب، وروسيا جزء منه، وهو فى غمار أزمته، يبحث مجددا فى انعاش مستحيلات، انظر إليه، وهو يحاول استنهاض الدول الإسلامية، ويقصد تحديدا الدول العربية، لتتحمل مسئولية مكافحة الإرهاب الإسلامى. حجته الأقوى، إنه ارهابهم، نشأ فى أحضان العرب، ونضج بينهم، واستفادوا منه فى صراعاتهم البينية، أى بين بعضهم البعض. مولوه بالمال وساندوه بالدين والعتاد.
تغافلوا عن تضخمه وزحفه وتطويره لمسالكه وممراته وقواعده. الأزمة تتفاقم. الغرب يعلم علم اليقين أن العرب لن يقووا على القضاء على الإرهاب حتى لو أرادوا، وبعضهم لا يريد، وإن أراد فهو مقيد ومحكوم بتراث مذهبى أو طائفى أو دينى يحمى أسس هذا الإرهاب، يخطئ الغرب حين يحيل الأمر برمته إلى العرب ظنا منه أن حربا إرهابية بين العرب وقوى الجهاد الإسلامى سوف تستنفد طاقة الإرهاب الإسلامى المخزونة فى بلاد الغرب، يخطئ لأن الإرهاب «العربى» استوطن الغرب فعلا، ولن يتخلى عن مستوطناته ولن يعود إلى موطنه الأصلى.
***
مرت سنوات عديدة منذ تفجير برجى التجارة الدولية فى نيويورك. تكشف الأيام الراهنة عن فشل هائل للحرب العالمية ضد الإهاب كما أطلق عليها الرئيس بوش، وكما يعود الآن الرئيس أوباما يطلق عليها الصفة نفسها. فشل بوش و فشل أوباما. لا موت بن لادن يعد نصرا نهائيا وحاسما فلدينا الآن عشرات بل مئات من قادة الإرهاب على شاكلته وأسوأ. وفشل بوتين فى محاولة القضاء على الإرهاب فى مناطق نفوذه. ففى وسط آسيا، أى فى معظم دول جوار روسيا، خلايا إرهابية تستعد بالتمويل الأجنبى والتدريب لدور ليس أقل شأنا من دور خلايا الإرهاب فى دول الغرب.
المخيف حقا هو أنه لم يصدر عن الحكومات العربية، مجتمعة أو منفردة، ما يدل على أنها تأثرت بمذبحة باريس الإرهابية، قيل مرارا، ويقال بتكرار صار مملا، إن» الجماعة «العربية تمر فى أسوأ مراحلها منذ الاستقلال. أعنى بالجماعة العربية هذه الدول التى تنطق بالعربية، سواء اجتمعت تحت مظلة مؤسسة قومية جمدها البعض منهم عن قصد، أو تحت مظلات جهوية، أو تصرفت منفردة، كل على حدة. نسمع هذه الأيام أو نرى بعض هذه الدول، وربما أكثرها، يتوسل إلى الدول الكبرى بتولى مهمة الحرب ضد الإرهاب نيابة عنها، بالإيجار أو استخدام مرتزقتها أو باستعادة آلاتها ومستشاريها العسكريين، هناك بين هذه الدول يدعو روسيا للنزول والإقامة فى سوريا، وهناك بين العرب وفى إيران من يدعوها للنزول فى العراق، وهناك من يدعو كل دول الغرب، وفيه روسيا، بتولى مسئوليات تأمين الموانئ والمطارات العربية ولا يرى عيبا أو خطرا أو نقصا فى الهيبة والقيمة بعد عقود من التحرر وممارسة الاستقلال. نقول وبالصراحة الممكنة، لقد فشل البعض منا فى أن يقيم «الدولة العربية المستقلة»، وفشل البعض الآخر فى المحافظة على دولة مستقلة أقامها حينا. أكثر هذه الدول لا تستحق الآن الرايات التى ترفعها على مرافقها، ويلوح بها أطفالها فى المهرجانات « الوطنية». أكثر الأنظمة الحاكمة فى هذه الدول قرر أن يلقن الاجيال الجديدة لغة أو لغات أخرى غير العربية. بعض هذه الأنظمة ما تزال تعتمد على الإرهاب فى شكل القمع والترهيب والتعذيب لتنفيذ أهداف داخلية أو خارجية، يعتمد على أساليبه فى إخضاع معارضيه السياسيين، يرهبهم بأجهزة إعلام «إرهابية» الفكر والمنهج والتمويل، ويرهبهم بالتعذيب الوحشى مستفيدا من وجود مؤسسات دينية جاهزة لدعم السلطة السياسية مقابل السماح لها بترويج التطرف الدينى. بات واضحا لشعوبنا أن عددا متزايدا من الدول العربية متماسكة الحدود والشكل التنظيمى، لا يخجل رغم الشعارات الجوفاء عن المؤامرات الغربية، من دعوة دول الغرب لتعود أجيرا أو حليفا، تتولى مسئوليات اقتصادية وأمنية وإدارية. يحدث هذا بينما يبقى مرفوعا شعار استعادة هيبة الدولة.
***
يوما بعد يوم تكاد الدولة الحديثة تختص فقط بإدارة الغضب الشعبى المتزايد باستخدام أساليب عنيفة. يهمس المسئولون فيها بأنهم حريصون على ألا يتركوا للغضب فرصة يعود من خلاله الشعب إلى وضع الثورة. هؤلاء لا يدركون أن الغضب هيمن بالفعل وأن الناس فى معظم أنحاء الساحة العربية يفكرون بقلق واضح ويأس متقطع وأمل متجدد فيما بعد الغضب.
هناك فى واشنطن وباريس وبروكسل وموسكو فشل، وهنا فى معظم عواصم العرب فشل مضاعف وفى إيران وتركيا وإسرائيل ترقب حذر وتوتر له ما يبرره، جزء من هذا التوتر يتعلق بالسؤال عن ثمار الفشل العربى وفى حجر أى دولة من الدول الثلاث ستسقط. بسبب هذا الفشل هناك وهذا الفشل هنا تتجمع سحب الغضب وتتشكل بوادر مرحلة ما بعد الغضب.