القاسية قلوبهم!
أكرم السيسى
آخر تحديث:
الثلاثاء 26 نوفمبر 2019 - 11:10 م
بتوقيت القاهرة
لا أدعى أننى مفسر أو متخصص فى العلوم الدينية، ولكننى وجدت التعبير القرآنى «القاسية قلوبهم» مناسبا بل متطابقا لحالة المجتمع الحالية، فكثير من الأحداث تؤكد مفهوم قسوة القلب الذى أصاب كثيرا من المصريين، بدءا من حادثة كمسرَيّ القطار، الأول أراد محاسبة أحد المخالفين بعدم دفع التذكرة، والثانى أوقع غرامة التدخين على أحد الركاب، ولكن المُخالفَيّن قفزا من القطار، فلقيا مصرعهما، إلى حادثة الطيار الذى سمح لأحد الممثلين المشهورين بقيادة الطائرة، فبث الرعب فى قلوب الركاب، مرورا بالطالبة الجامعية التى تطاولت على أستاذها بقولها «والله لأوريك»، عندما طلب منها الالتزام بآداب المحاضرة، وعدم التحدث بالموبايل، وانتهاء بتنمر ثلاثة مراهقين على طالب من جنوب السودان يدرس فى القاهرة...!
يعتقد كثير من الناس بأن القلب مجرد مضخة تضخ الدم الفاسد إلى الرئتين لتنقيته، ثم تضخُه من جديد إلى مختلف أجزاء الجسم، وأولها المخ الذى لو تأخر ضخ الدم إليه لثوان معدودة لهلك صاحبه، ولكن بالتأكيد للقلب وظائف أخرى، فهو مكان الاطمئنان والأمن، أو الانزعاج والخوف، ومحل الفهم والفقه، ومحل الرِّقة واللين أو القسوة والغلظة، ومحل المحبة والرحمة والرأفة، أو الكراهية والغل والقسوة، فضلا عن أن العلاقة بين القلب والعقل وطيدة ومباشرة، فإذا صح القلب صح العقل، كما فى قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ» (الحج ــ آية 46).
***
والقلب جهاز فائق التعقيد، به جهاز عصبى يشبه المخ تمامًا، له ذاكرة قصيرة وطويلة، وقد اتضح ذلك بجلاء عند نقل قلب من إنسان إلى آخر، فيأخذ القلب المنقول معه من الذكريات والمواهب، والعواطف والمشاعر الخاصة بالشخص الذى أُخذ منه القلب، والتى تبدو غريبة عن صفات الشخص الذى تم نقل القلب إليه، وبذلك ثبت أن القلب يتحكم فى المخ أكثر من تحكم المخ فيه!
لقد ذُكرت مفردة «القلب» فى موارد وصفات كثيرة فى القرآن الكريم منها: القلب الخاشع، والمُتقى، والعاقل، والمطمئن، والسليم، والمريض... إلخ، وأما عن صفة قسوة القلوب، فقد ذكرت فى خمس آيات، ولعل أقواها ما جاء فى وصف قسوة قلوب بنى إسرائيل، إذ كانوا يُكذبون بالرسل، ويجحدون لآيات الله: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (البقرة 74)، وهكذا يتضح أن أبعد الناس عن الله هم أصحاب القلوب القاسية.
كما نستنج، مما سبق، أن قسوة القلوب تأتى ممَن أنكر الحق، ومن نافق، ومَن خالف الواقع وما توافق عليه المجتمع، وهو فى حالتنا «القانون» و«إقامة العدل» بين الناس، فأى عبث فيهما من حيث مخالفة التطبيق أو الاستهزاء بهما، وعدم تطبيقهما على الكبير قبل الصغير، وعلى الغنى قبل الفقير، وعلى القوى قبل الضعيف، يكون من صُنع «القاسية قلوبهم»، أو هكذا تُصنع «القلوب القاسية»! فإن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة!
***
نحن إذن لا نتحدث عن قسوة القلب التى ترادف الكفر، وعدم الإيمان بالله وبالأديان السماوية، وإنما نتحدث عن قسوة القلب كمرض يعترى قلوب الناس، بدءًا من القسوة التى يمارسها الفرد الملتزم بدينه من خلال تأديته للفرائض والواجبات الشعائرية دون الالتزام بآداب التعامل وبالسلوكيات القويمة؛ ومن قلوب بعض أصحاب النفوذ والمال، ممن استخدموا نعم الله فيما لا يحل له، الأمر الذى أورث فى قلوب الجميع قسوة وشدة، ونزع منهم الرحمة والرأفة المفترضة فى القلب السليم.
إن من يجول ويصول فى الكثير من أماكن اجتماع الناس، بدءا من الشارع الذى لا نجد فيه نظافة أو احتراما لقوانين المرور سواء من المشاة أو من السيارات، وفى الدوائر الحكومية، والأسواق وغيرها، نجد أن داء القسوة قد أصاب الكثير من القلوب، ومن أهم أسباب قسوة القلوب، ظلم الناس وسوء معاملة بعضهم لبعض، فسوء معاملة القوى للضعيف، والغنى للفقير من أكثر مظاهر أعراض قسوة القلوب وضوحًا وظهورًا.
فى الحقيقة، تضعنا الحوادث السابقة الذكر ــ فى بداية المقال ــ فى «ديلمة» (dilemme) لا نعرف الخروج منها، و«الديلمة» تعنى الحيرة وتناقض المواقف حيث يصعب على الإنسان اختيار الحل المناسب، فقد فرضت علينا هذه الحوادث سؤالا محيرا: هل نقف مع القانون أم مع التنازل عنه إرضاء للإنسانية وللتسامح؟ وهنا نجد علاقة متناقضة بين الحق والواجب من ناحية، وبين الرحمة والرأفة من ناحية أخرى! علما بأنه من المفترض أن كليهما مكمل للآخر، فلا يجب التعارض بين الناحيتين، هذه الديلمة أصبحت محور حياتنا، وفرضت علينا حالة من العبث يعيش فيها المصريون جميعا!
ففى حادثة الممثل الشهير (ولا أقول الفنان، لأن الفن دعوة للسلوك الراقي)، نجد الديلمة الأولى بين الحق والعدل والواجب، فقد عاقبت شركة الطيران الطيار بسحب رخصته لأنه لم يحترم قوانين مهنته، وغامر بحياة الركاب جميعا، ولكننا نرى عقوبة لطرف واحد، بينما الجريمة وقعت من طرفين، فأين عقوبة الذى أغوى الطيار بارتكاب حماقته أو جريمته، فالعدالة تقتضى محاسبة الطرفين، وأين واجب النيابة العامة (محامى الشعب) لمحاسبة الطرفين على ما يسمى قانونا «حق المجتمع»!، كان من المفترض إلقاء القبض على الطرفين، ومحاسبتهما على مخالفتهما، الطيار على إرهابه للركاب، والممثل على تعديه على ما ليس له حق فيه، وتعريضه حياة الركاب للخطر؟
وفى حادثة القطار، نجد ديلمة أخرى، هل نتنازل عن حق الدولة فى تحصيل أجرة القطار؟ أم نتسامح معه حتى لا يُلقى بنفسه من القطار؟ من وجهة نظرنا المتواضعة لابد من تطبيق القانون، ولكن البعض يرد بأن القانون له روح، فهو ليس سيفا مسلطا على المواطن فيجعله يقتل نفسه! هذه حقيقة، ولكن السؤال المهم الذى يجب أن يخرجنا من هذا المأزق المصطنع بين الحق والرحمة: ما الذى دفع الشاب لهذه الظروف؟ هل أخذ هذا الشاب حقه من الدولة فى التعليم والرعاية وتوفير عمل مناسب غير مخالف للقانون حتى نستطيع محاسبته؟
وفضلا عن ذلك، هل تمت محاسبة الذين أفسدوا وسرقوا أموال الشعب، وهربوها للخارج، وفرضوا علينا هذه الديلمة؟ ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، أين متابعة أموال الرئيس الأسبق مبارك وعائلته فيما أعلنته السلطات القضائية فى سويسرا، وحضور النائب العام السويسرى شخصيا لمساعدة الجهات المعنية فى مصر؟ أليست هذه حقوق المواطنين الذين لا يجدون قوت يومهم فيخالفون القانون للاسترزاق؟
فى الحادثتين لا نجد إلا قلوبا قاسية من كل الأطراف، الأطراف القوية لم تلتزم بإقامة العدل، والأطراف الضعيفة لم تلتزم بالقانون، كما أننى أخشى أن يكون ــ فى الحادثتين ــ ما حذرنا منه نبينا الكريم بقوله: «إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد»؟!
***
وفى واقعة تخطى الطالبة الجامعية على أستاذها، وعن التنمر بالطالب السودانى الذى لَقّن المراهقين المتنمرين به درسا أخلاقيا رفيعا، عندما سامحهم، وقال إنه لا يمكن له أن يؤذى أصحاب البلد الذى يتعلم فيه!، إنما تدل الواقعتان على أننا وصلنا إلى الحدود الدنيا فى المستوى التعليمى الذى من أهم واجباته تعليم النّاشِئ التربية الصالحة، ونبذ العنصرية، والمساواة بين الناس، فالتعليم المتدنى لم يخلق سوى شباب متطرف، لهم قلوب قاسية، لا يحترمون لا الكبير، ولا من يُعلمهم، ولا الآخر بكل أنواعه فى اللون، أو فى الجنس، أو فى الدين، أو فى الرأى! هكذا نجد بعضهم يعتدون على إخوة وشركاء لهم فى الوطن فيُخرجوهم من ديارهم بدعوى أنهم كفرة، وصعيد مصر شاهد على حالات متعددة!.
وللأسف هذا النهج الموصوف بـ«القاسية قلوبهم» يتبعه أعضاء من الحكومة الحالية، فقد أمر السيد الرئيس بعدم طعن الحكومة فى الحكم بضم العلاوات الخمس لأصحاب المعاشات، إلا أن وزيرة التضامن الاجتماعى أكدت أن التسوية وفقا لمنطوق الحكم تؤدى إلى نقص قيمة معاشات من يطبق بشأنهم الحكم!
وفى مفارقة غريبة، يُعرب السيد رئيس البرلمان عن صدمته لتدنى معاشات ضباط الشرطة، حقا إن معاشاتهم ضئيلة ولا تليق بمجهودهم، لا شك فى ذلك، ولكن كنا نرجو سيادته أن يطلع أيضا على معاشات فئات أخرى، لا تقل أهمية دورها عن دور رجال الشرطة، ليُبدى تعاطفه معهم، خاصة وأنهم لا يتقاضون مكافأة كغيرهم عند انتهاء خدمتهم، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، الأطباء الذين يبذلون جهودا ليل نهار، فى الحرب وفى السلم، فى المدينة والقرية والصحراء، لإنقاذ حياة المواطنين، وعن المدرسين وأساتذة الجامعات الذين يعلمون كل أفراد المجتمع، ويؤهلونهم لكل خدمات الدولة: ضباطا وأطباء ومهندسين ومحاسبين...؟!
ونختم بقول النبى عليه أفضل الصلاة والسلام: «ألا إن فى الجسد مُضغة إذا صلحت صلُح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب»، وإصلاح القلب والعقل لا يأتى إلا بالتعليم الجيد، فما أمر الله رسوله أن يتزود من شيء إلا من العلم: «وقل ربى زدنى علما»، وما من أحد يخشى الله أكثر من العلماء والمتعلمين «إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ».
اللهم عَلِّمنا من العلم ما ينفعنا، وما يكون سببا فى رُقِيّنا، وتحسين سلوكياتنا وأخلاقنا، ويكون فيه شفاء قلوبنا وتنوير عقولنا.
أستاذ الأدب واللغويات بقسم اللغة الفرنسية بجامعة الملك سعود بالرياض