مؤتمر شرم الشيخ.. فى النظام الدولى لتغير المناخ
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
الأحد 27 نوفمبر 2022 - 1:50 م
بتوقيت القاهرة
وَضْع مؤتمر شرم الشيخ المنتهية أعماله يوم الأحد الماضى 20 نوفمبر فى إطاره القانونى والمؤسسى هامٌ للمهتم بالعلاقات الدولية وبمستقبل الحياة على كوكب الأرض. مؤتمر شرم الشيخ كان الحلقة السابعة والعشرين من مؤتمر الأطراف فى اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ المعتمدة فى مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية فى ريو دى جانيرو فى سنة 1992. منذ سنة 1995، بشكل سنوى انعقد مؤتمر الأطراف فى مناطق العالم الخمسة. فى قارتنا الأفريقية وفى عالمنا العربى انعقد مؤتمر الأطراف السابع عشر فى سنة 2011 فى دربان بجنوب أفريقيا، والثامن عشر فى الدوحة بقطر فى سنة 2012، والثانى والعشرين فى سنة 2016 فى مراكش بالمغرب. الغرض من مؤتمرات الأطراف هو تحقيق أهداف الاتفاقية الإطارية بتفسير أحكامها والبناء عليها، وبتحديد الغايات المراد بلوغها، وطرائق الوصول إليها، والأدوات اللازمة لذلك. بعبارة أخرى، مؤتمرات الأطراف تبغى تنمية النظام الدولى لتغير المناخ وتعميقه.
الفكرة الأساسية والبديهية فى الوقت نفسه هى أن تغير المناخ يخلخل البيئة فى كوكب الأرض بشكل يهدد مستقبل حياة البشر عليه فى المديين البعيد والمتوسط، بل هو أخذ يؤثر فى حاضرهم أيضا. تغير المناخ الناتج عن انبعاثات غازات الدفيئة السبعة، وأهمها ثانى أكسيد الكربون، يؤدى إلى التصحر، والجفاف، والكوارث الطبيعية. ومياه البحار المرتفعة نتيجة لهذا التغير يمكن أن تختفى تحتها جزر كاملة، بعضها دول ذات سيادة كالمالديف، أو أن تغمر أراضى شاسعة يعيش عليها الملايين وتنتج لهم ولبقية شعوب بلدانها الغذاء كدلتا نهر النيل فى مصر، وأجزاء من فيتنام وبنجلاديش. غازات الدفيئة تنبعث فى مكان ما بفعل فاعل ما فى هذه البلد أو تلك، ولكنها تتجمع فى الغلاف الجوى وتنزل بآثارها على البشر فى مواطنهم سواء كانت انبعثت منها أم لم تكن. نمط التقدم القائم على التصنيع المتبع منذ القرن الثامن عشر هو المسئول عن انبعاثات غازات الدفيئة باستخدامه الفحم، ومن بعده النفط والغاز، مصادر الوقود الأحفورى، لتوليد الطاقة الضرورية لتشغيل المصانع ومختلف أنواع المركبات. البلدان المتقدمة المصنعة هى المسئولة بالتالى عن جل الانبعاثات فيما يقرب من القرون الثلاثة الأخيرة. البلدان النامية بقيت غير مصنعة، وهى لم تنتج إلا النزر اليسير من غازات الدفيئة المتجمعة فى الغلاف الجوى، ولكنها تتعرض لآثارها. ولأنها لم تصبح متقدمة بعد فإن بنيتها الأساسية هشة، ولذلك تكون آثار غازات الدفيئة عليها مدمرة أكثر مما يمكن أن تكون على البلدان المصنعة المتقدمة. هذا التحليل يعنى أن غازات الدفيئة لا تعرف الحدود ولا الدول الوطنية. هى تتعامل مع البشرية، والبشرية عليها أن تتعامل معها. ولكن البشرية ليست وحدة واحدة لها الإرادة نفسها، بل هى موزعة على دول وطنية لها إرادات متباينة وهى غالبا ما تدافع عن مصالح متعارضة. هذه الدول ذات المصالح المتعارضة هى التى عليها أن تمثل البشرية المفترض أن مصلحتها واحدة. هذا هو التوتر فى المصالح الذى يطبع عملية الاتفاق على الإجراءات الضرورية للتصدى لتغير المناخ، وهو جوهر مشكلة النظام الدولى الحاكم له.
• • •
الخطوات الأولى فى تشييد النظام الدولى الخاص بتغير المناخ، المستقل عن قضايا البيئة بشكل عام، بدأت بإنشاء الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ فى سنة 1988. الهيئة مجموعة من الخبراء الهدف منها هو أن تقدم للحكومات تقارير عن التقديرات العلمية لتغير المناخ، وعن آثاره الاقتصادية والاجتماعية المحتملة، وعن الاستراتيجيات الممكنة للتصدى له. بشكل متزامن تقريبا، اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا فى سنة 1987 ببدء التفاوض بشأن اتفاقية دولية لمكافحة تغير المناخ وهى الاتفاقية الإطارية المذكورة أعلاه المعتمدة فى سنة 1992. الاتفاقية، وهى حجر الأساس فى النظام الدولى لتغير المناخ، هدفها هو تثبيت غازات الدفيئة فى الغلاف الجوى عند مستوى لا يجعل تدخل الإنسان خطيرا فى النظام المناخى، مستوى يمكِّن النظم الأيكولوجية من التكيف بشكل طبيعى مع تغير المناخ، ويضمن عدم تعرض إنتاج الغذاء للخطر، ويسمح بالتنمية المستدامة. لذلك تنص الاتفاقية على أن تحقيق هذا الهدف يتطلب العمل على تخفيف انبعاثات غازات الدفيئة، خاصة ثانى أكسيد الكربون، والتكيف مع آثارها الضارة على المناخ. أما التزامات الدول الأطراف فهى تشمل حساب انبعاثات غازات الدفيئة وتقديم التقارير عنها والتخفيف منها، وتتضمن أيضا التعاون من أجل التكيف مع تغير المناخ، بالإضافة إلى تقويم التطبيق الفعلى للاتفاقية فى الدورات المتتالية لمؤتمر الأطراف فيها. الدول المتقدمة بالذات عليها التزامات صارمة بتقديم التقارير عن تطبيقها لأحكام الاتفاقية، وعن توفير الموارد المالية والمعونة التكنولوجية للدول النامية لمساعدتها على الوفاء بالتزاماتها.
الاتفاقية الإطارية حددت مبادئ النظام الدولى لتغير المناخ ونذكر منها بشكل خاص المبدأ الأول وهو أن «تحمى الأطراف النظام المناخى لمنفعة أجيال البشرية الحاضرة والمقبلة، على أساس الإنصاف ووفقا لمسئولياتها المشتركة، وإن كانت متباينة، وقدرات كل منها. وبناءً على ذلك ينبغى أن تأخذ البلدان المتقدمة النمو الأطراف مكان الصدارة فى مكافحة تغير المناخ والآثار الضارة المترتبة عليه». بعبارة أخرى، لا بدّ أن تتسم حماية النظام المناخى بالإنصاف، وهو ما يعنى أنه وإن كانت مسئولية الدول الأطراف مشتركة لأنها معا تمثل البشرية، فإن مستوى الجهد الذى تبذله لحماية النظام المناخى متباين، يتناسب مع قدرات كل منها، وبالتالى فإن البلدان المتقدمة ذات القدرات الأكبر هى التى ينبغى أن تتحمل التكلفة الأعلى فى مكافحة تغير المناخ والتصدى لآثاره الضارة.
• • •
دورات مؤتمر الأطراف حققت أحيانا تقدما، يعتد به أو لا يعتد، مثلما حدث فى بالى وكانكون ودربان وكاتوفيشى وفى أحيان أخرى سجلت فشلا مدويا، كما حدث فى المؤتمر الخامس عشر المنعقد فى كوبنهاجن فى سنة 2009. كثرة من المحللين يرجعون فشل مؤتمر كوبنهاجن إلى جو الأزمة المالية الذى كان مخيما على العالم فى ذلك العام. يبقى أن المحطتين الرئيسيتين فى تنمية النظام الدولى لتغير المناخ هما دورتا مؤتمر الأطراف الثالثة والحادية والعشرون المنعقدتان فى كيوتو باليابان فى سنة 1997، وفى باريس بفرنسا فى سنة 2015. هاتان الدورتان اعتمدتا اتفاقيتين دوليتين ملزمتين هما بروتوكول كيوتو واتفاق باريس. نستعرض بإيجاز أبرز أحكام الاتفاقيتين اللتين فصلتا فى الالتزامات الواقعة على أطراف الاتفاقية الإطارية وحددتا غايات يجب بلوغها.
دخل بروتوكول كيوتو حيز النفاذ فى سنة 2005 واستمر سريانه حتى آخر ديسمبر 2020. نص البروتوكول على غايات، على 37 بلدا متقدما والاتحاد الأوروبى بلوغها وهى تخفيف انبعاثات غازات الدفيئة الصادرة بنسبة خمسة فى المائة فى المتوسط، دون مستوى سنة 1990، فيما بين سنتى 2009 و2012. بلغت البلدان المتقدمة الغايات المحددة خلال المهلة المضروبة ثم تعهد أغلبها بمزيد من تخفيف الانبعاثات خلال الفترة 2013ــ2020. يلاحظ أن البروتوكول لم يحدد للبلدان النامية غايات فى تخفيف الانبعاثات تلتزم ببلوغها. البروتوكول ميّز أيضا بين الالتزام الصارم على البلدان المتقدمة والمرن على البلدان النامية بتقديم التقارير عن جهودها فى تخفيف الانبعثات والتكيف مع تغير المناخ التى تضطلع بها. البروتوكول أنشأ إذن نظاما مزدوجا فى الالتزامات وفى الإبلاغ عنها ميسرا للبلدان النامية فيما هو صارم على البلدان المتقدمة. جدير بالذكر أن البروتوكول أنشأ أيضا ثلاثة أنظمة للإتجار فى حقوق توليد الانبعاثات بغية التخفيف الإجمالى منها.
اتفاق باريس حل محل بروتوكول كيوتو وهو ملزم قانونا، غير أن كثيرا من أحكامه صيغت كتوصيات أو كالتزامات جماعية لا يمكن المساءلة عن تحقيقها. الأحكام الآمرة هى تلك الخاصة بتقديم التقارير ومراجعة التقدم فى تحقيق أهداف الاتفاق. أنهى اتفاق باريس النظام المزدوج ونص بدلا منه على أن تتقدم كل دولة، متقدمة أو نامية، «بتعهد محدد وطنيا»، وهو تعهد غير ملزم، يرد فيه الانبعاثات التى تنوى الدولة التخفيف منها وتخفيضها، كما يمكن أن يشمل التعهد أهداف الدولة فى التكيف مع آثار تغير المناخ. فى اتفاق باريس عدد من الأحكام ذات الأهمية لعل أبرزها الإبقاء على ارتفاع درجة حرارة الأرض الناتج عن ابعاثات غازات الدفيئة لما دون الدرجتين المئويتين وبذل الجهود للنزول بها لما دون الدرجة والنصف مقارنة بما قبل العصر الصناعى. حكم بارز آخر هو تأكيد تعهد أخذته على عاتقها البلدان المتقدمة فى 2009 فى كوبنهاجن وفى 2010 فى كانكون بتوفير تمويل يبلغ المائة مليار دولار سنويا، من مصادر عامة وخاصة، لمساندة جهود التخفيف والتكيف التى تبذلها البلدان النامية. أنشأ الاتفاق لجنة من 12 عضوا لتيسير تطبيق الاتفاقية ولمساعدة الدول الأطراف على الوفاء بالتزاماتها بمقتضاها. اللجنة مكان للتشاور والمساعدة وليس لمساءلة الدول الأطراف أو عقابها ولو معنويا على عدم الوفاء بالتزاماتها. ملخص الكلام أنه على الرغم من الطابع الإلزامى للاتفاق شكلا فإن أحكامه بشأن الموضوع طوعية.
• • •
أين يقع ما تحقق فى شرم الشيخ من النظام الدولى لتغير المناخ الموصوفة أهم ملامحه بإيجاز أعلاه؟ المسئولية عن تنمية النظام الدولى لتغير المناخ فى دورات مؤتمر الأطراف تقع على الدولة المستضيفة للدورة وكذلك على مجمل الدول الأطراف فى الاتفاقية المشاركة فى المؤتمر، خاصة المتقدمة منها التى تتخذ «مكان الصدارة فى مكافحة تغير المناخ» كما تنص على ذلك الاتفاقية الإطارية. البيئة، أو الظروف التى ينعقد فيها المؤتمر، تؤثر على ما يصل إليه أو لا يصل. الظروف فى هذا العام شكلتها الحرب فى أوكرانيا وأزمة الغاز التى تسببت فيها وعودة بعض البلدان المتقدمة إلى استخدام الفحم، فضلا عن التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة اللذين نشآ عنها. الظروف أيضا شكلتها الكوارث الطبيعية المترتبة على تغير المناخ، مثل الفيضانات التى أغرقت باكستان فى الأسابيع السابقة على المؤتمر وتلك التى نزلت قبلها بالقارة الأوروبية نفسها، فضلا عن الجفاف وما يسببه من حرائق.. مناشدات المجتمع المدنى الدولى ومواقف ممثلى المصالح الاقتصادية تشترك أيضا فى تشكيل البيئة التى تنعقد فيها المؤتمرات. التقدم الذى تحقق فى شرم الشيخ كان وضع الخسائر والأضرار الناجمة عن تغير المناخ على جدول أعمال المؤتمر، وهو ما يحسب للدولة المضيفة، مصر. وفى ختام المؤتمر تقرر إنشاء صندوق للتعويض عن الخسائر والأضرار التى تتعرض لها البلدان النامية ولعلاج آثارها. فى إنشاء الصندوق فى حد ذاته اعتراف بمسئولية البلدان المتقدمة عن الخسائر والأضرار وهو ما كانت ترفضه فى السنوات الثلاثين الماضية. إنشاء الصندوق إنجاز، حتى وإن كان حتى الآن قوقعة فارغة فالخلاف ما زال قائما عمن ينبغى أن يموله بالموارد، كما أن المؤتمر لم يحدد قواعد تشغيله ولا معايير الاستفادة به. عبّر البعض عن الأسف لاستمرار الاتفاق النهائى للمؤتمر فى النص على تخفيض استخدام الفحم وليس على إنهاء هذا الاستخدام، وعلى إبرازه، إلى جانب مصادر الطاقة المتجددة، للوقود قليل الانبعاثات، وهو إشارة خفية للغاز الطبيعى.
مؤتمر شرم الشيخ حلقة فى سلسلة متصلة لمؤتمر الأطراف فى الاتفاقية الإطارية. على المؤتمرات القادمة أن تفصِّل فى التقدم الذى مثله إنشاء صندوق الخسائر وللأضرار وأن تعمِّقه، وأن تزيد من طموحها فى تخفيف الانبعاثات، وأن ترفع من مستوى الموارد المالية التى توفرها الدول المتقدمة للدول النامية فاحتياجات هذه الأخيرة بالتريليونات وليست مائة مليار.
الظروف الدولية والوطنية ستستمر فى التأثير على ما تحققه كل دولة مضيفة.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة