كأس العالم.. عن الشرق الذى هزم الغرب!
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
السبت 26 نوفمبر 2022 - 9:05 م
بتوقيت القاهرة
مرة أخرى عاد موضوع «المثلية» الجنسية للواجهة على هامش إقامة مباريات كأس العالم فى دولة قطر، وذلك بعد أن أعلن الاتحاد الدولى لكرة القدم «فيفا» عن منع اللاعبين المشاركين فى المباريات من ارتداء شارات دعم «التنوع» وهو المسمى الذى يطلق عادة لدعم المثلية وغيرها من التوجهات والهويات الجنسية.
شارات الدعم هذه والتى تقوم على ألوان «قوس قزح» وغيرها من الرسومات التى تعبر عن الحب والتقبل للآخر، كان قد تم طرحها فى الملاعب الأوروبية منذ عدة سنوات، فى الأول بشكل اختيارى، ثم لاحقا بشكل شبه إجبارى ولا سيما فى الملاعب الإنجليزية التى تشهد أهم وأقوى بطولات كرة القدم العالمية وهى الدورى الإنجليزى الممتاز أو «البريمر لييج»!
تسبب قرار الفيفا الذى حاول شرح الخلفية الثقافية للقرار وضرورة احترام البلد المضيف فى ثورة عدة منتخبات أوروبية ضده، وسط تردد أنباء غير مؤكدة عن تهديد بعض الاتحادات الأوروبية بالانسحاب من البطولة حال تم منع لاعبيها من ارتداء هذه الشارات! ولعل صورة الاحتجاج الأبرز كانت قيام لاعبى المنتخب الألمانى بوضع أيديهم على أفواههم قبل بدء مباراتهم مع المنتخب اليابانى فى إشارة إلى احتجاجهم على منع قائد المنتخب الألمانى من لبس الشارة!
الأمر الذى تسبب فى حملة عربية إعلامية وشعبية صاخبة ضد المنتخب الألمانى واتهامه بالعنصرية وعدم احترام الثقافات المغايرة ووصلت الحملة على مواقع التواصل الاجتماعى مداها بوضع صور كاريكاتورية لا تخلو من إيحاءات جنسية للمنتخب الملقب بالماكينات، بل وادعى البعض أن سبب الهزيمة أمام اليابان كان انشغال لاعبى المنتخب الألمانى بالموضوع وعدم تركيزهم فى الملعب!
وفى المقابل، ورغم وجود العديد من اللاعبين الغربيين الذين أعلنوا ضرورة احترام ثقافة البلد المضيف وكذلك وجود بعد التعليقات الإعلامية الغربية التى أكدت أن الأمر لا يحتاج إلى كل هذه الضجة، كان الغضب الغربى هو الشائع على الأقل بين متابعى الكرة هناك، وطالت ثورة الغضب عدة مواضيع أخرى قيمية مثل عدم السماح للجماهير بشرب «البيرة» داخل المدرجات، وسط إشاعات غير صحيحة حول ترحيل بعض الجماهير الغربية من الدوحة بسبب لبسهم لأزياء عارية أو وضعهم لإشارات دعم التنوع!
• • •
الحقيقة أن الموضوع غاية فى التعقيد وكالعادة فإن محاولة التحليل بعيدا عن نظرية الأبيض والأسود تكون محاولة صعبة لأن الناس عادة تفضل أن ترى انحيازا واضحا للمواقف وتعتبر أن غير ذلك هو مسك للعصا من المنتصف، وهو قطعا أمر خاطئ يقع فيه الكثير من الناس لأن اختيار موقع المحلل يختلف عن اختيار موقع المشجع!
الواقع أنه لا يمكن أبدا من إنكار أمرين: الأول هو وجود نظرة استعلائية غربية للحدث وللقيم الشرقية واعتبار أن القيم الغربية وحدها هى التى يجب أن تسود! والثانى هو أن الاتحادات الأوروبية ومن قبلهم الفيفا تكيل بمكيالين وأحيانا بثلاثة مكاييل، بل وأربعة وخمسة!
ففضلا عن التركيز على تهم الفساد الموجهة لقطر لاستضافة البطولة، وغض النظر عن نفس التهم الموجهة لغيرها من الدول الغربية فى استضافة أحداث مماثلة، فإن نفس هذه المنتخبات الأوروبية واتحاداتها ومن قبلها الفيفا لديها أزمات شديدة فى التضامن مع القضية الفلسطينية واعتبارها قضية سياسية لا قضية حقوقية، وكأن الشعب الفلسطينى المحتل باعتراف القانون الدولى والمنظمات الدولية ليس إنسانا وليس له حقوق!
نفس هذه الاتحادات الأوروبية ومن خلفهم الفيفا ليس لديهم أزمة مع دعم القضية الأوكرانية أو دعم المثلية أو غيرهما من القضايا التى تعبر عن التوجهات والقيم الغربية، بل ويعتبرون الدعم واجبا رغم أن لهذه القضايا أبعادا سياسية كما لها من أبعاد حقوقية!
يوم الخميس الماضى وأثناء تناولى لوجبة العشاء مع مجموعة من الأسر الأمريكية الصديقة احتفالا بعيد الشكر، صدمنى أحد الضيوف (ألمانى الجنسية) بأغرب تفسير عن هزيمة الأرجنتين من المملكة السعودية، حيث ادعى أن الهزيمة مقصودة لأن الأرجنتين تريد تجنب أن تكون أول مجموعتها لتحاشى مواجهة البرازيل فى الأدوار الإقصائية اللاحقة!
طبعا قمت بالرد باستخدام العديد من الحجج التى تؤكد سذاجة طرحه وعدم منطقيته، مذكرا نفسى بأن نظرية المؤامرة منتشرة فى الغرب كما الشرق، لكن بعد برهة قصيرة أدركت فورا أن الأمر ليس متعلقا بنظرية المؤامرة، ولكن بنظرية الاستعلاء الغربى، فالزائر الألمانى لا يريد أن يصدق أن السعودية قد تفوز بالفعل على الأرجنتين لأسباب فنية وأنه لا بد أن هناك خطة أرجنتينية قصدت الهزيمة، كما نرى موقفا استعلائيا بحتا وما كان ليحدث لو أن الولايات المتحدة أو إنجلترا أو حتى ويلز قد هزموا الأرجنتين! تأكدت من خلاصتى هذه بعد أن طرح الموضوع على مائدة النقاش بعد تناول العشاء، فإذا ببعض الحضور يؤكدون أنهم سمعوا تحليلات مماثلة!
• • •
لكن وعلى الناحية المقابلة، فالأمر ليس شرا غربيا كاملا فى مواجهة قيم الخير والجمال فى الشرق! فكأس العالم المقامة حاليا فى قطر كشفت أيضا عن العديد من المثالب الشرقية الكامنة فى مجتمعاتنا والتى لا نريد أن نعترف بها مدعين دائما التفوق الأخلاقي!
فمن ناحية، فرغم كيل الغرب بمكيالين، ومع الإقرار بالنظرة الاستعلائية الغربية، فإن الزعم أن قيم الحرية والتنوع والعدالة فى الغرب هى قيم غير حقيقية، هو أمر ليس فقط غير دقيق، ولكنه محل تدليس تام! فالحقيقة أنه لولا أن قيم الحرية والتنوع فى الغرب هى قيم أصيلة وسائدة من الناحية الثقافية والمجتمعية، بل والقانونية، لما لجأ مئات الآلاف من شعوبنا المقهورة المغلوبة على أمرها إلى هذه المجتمعات مع استعداد ملايين آخرين لدفع كل ما يملكون من أجل فرصة مماثلة! ولولا أن قيم السلطوية والعنف والقمع والاستعلاء هى قيم أصيلة فى مجتمعاتنا العربية ثقافيا ومجتمعيا، بل وقانونيا، ما كانت منطقتنا طاردة للأقليات الدينية والعرقية واللغوية، وما تعرض الملايين من شعوبنا لأنواع مختلفة من الاضطهاد وغسيل المخ وأصبحوا يعيشون كأشباه بشر فى أشباه دول وأنصاف قوانين وحطام مجتمعات!
ولولا أننا نعانى من عقد النقص ومتلازمة العظمة والفوقية لما خرج بهاليل السلاطين ومهرجو الرؤساء وطراطير الأمراء هنا وهناك يبشرون الناس بدخول المئات للإسلام فى قطر لمجرد تواجدهم فى كأس العالم وكأن هؤلاء كانوا فى رحلة حج دينى من أجل التوبة لا فى رحلة كروية من أجل المتعة!
ليس مطلوبا منا أن نشعر بالدونية تجاه الغرب، كما أنه من غير المقبول أن نتغاضى عن معايير الغرب المزدوجة، ولا تدعو هذه الكلمات للتخلى عن القيم والعادات والتقاليد، ولكنها تدعو الجميع إلى عدم الانزلاق فى معارك الصراعات الثقافية الوهمية التى تروج لانكسار وهمى للآخر أو انتصار زائف للذات!
• • •
نرى نسخة ممتازة حتى الآن من كأس العالم فى قطر، ولكن علينا ألا ننسى أن هذه النسخة لم تنجح بسبب عظمة حضارتنا ولا علاقة لها بانتصار قيمنا، فقطر الدولة المضيفة هى فى النهاية ممثل للدول العربية فى انتهاك حقوق الناس وفى استخدام الدعاية للترويج لانتصارات وهمية دينية كانت أو ثقافية! الغرب رغم كل مثالبه هو من نظم وأشرف وخطط، بل وأسند تنظيم الكأس حيث يلعب الآن، بينما دفعت الدوحة التكاليف من عائدات الغاز لديها، هذه ببساطة القصة لمن يريد أن ينزل على أرض الواقع ويتوقف عن خداع النفس!
لم ينتصر الشرق ولم ينهزم الغرب لمجرد تنظيم حدث كروى، حتى لو كان الأروع فى العالم، كل ما حدث، أن الشرق أثبت أنه يستطيع لو توافرت الإمكانيات والظروف، أن يعبر عن نفسه وعن وجوده، وعلى الغرب هنا أن يفهم أن الكون لا يدور حوله فقط وأن هناك آخرين يعيشون على سطح هذا الكوكب، لكن علينا فى الشرق أن نتذكر أن الانتصارات أو الهزائم الحضارية لها مقومات مختلفة تماما ما زلنا أبعد ما نكون عنها ولهذا حديث لاحق!
أستاذ مساعد للعلاقات الدوليةــ جامعة دنفر