البرادعي وحاجة مصر لقيادة جديدة
معتز بالله عبد الفتاح
آخر تحديث:
السبت 26 ديسمبر 2009 - 9:54 ص
بتوقيت القاهرة
حسنا فعلت «الشروق» أن أجرت هذا الحوار المطول مع الدكتور محمد البرادعى.
ولا شك أن هذا الرجل، بهذا الطرح الذى ورد فى حواره مع الأستاذ جميل مطر، يشكل أملا حقيقيا لراغبى التغيير فى مصر وتحديا ضخما للقائمين على حكمها لسنوات طوال لاسيما إن قرر الدخول فعليا إلى ساحة الترشح لمنصب الرئاسة سواء فى 2011 أو بعدها، وسواء نجح فى الوصول إلى قمة الهرم السياسى أما كان فقط منافسا حقيقيا لمرشح الحزب الوطنى. فهو قطعا ليس أيمن نور الذى يمكن أن يضعه الحزب الوطنى فى السجن، بدعوى أنه زور أو سرق أو قتل؛ فالبرادعى رجل حاصل على قلادة النيل، أرفع وسام مصرى، وله مكانة وحظوة عالميتان لا يمكن النيل منهما بقضية ملفقة فى أحد أقسام الشرطة؛ كما أنه ليس الحاج أحمد الصباحى الذى كانت خبرته فى تفسير الأحلام تفوق معلوماته عن واقع الحياة السياسية فى مصر والذى ترشح فى الانتخابات السابقة ليعطى صوته للرئيس مبارك وكأنها مجاملة لعريس فى فرح بلدى؛ ولا هو رئيس حزب ديكورى مرخص له من قبل الحكومة يمكن لها أن تفتعل له مأزقا وتجمده كما تفعل مع الأحزاب المغضوب عليها.
ولا هو السيد عمرو موسى الذى يحرص على عدم الصدام مع الرئيس مبارك طالما هو فى منصبه كأمين «عام» للجامعة العربية التى «غرقت» تحت وطأة خلافات أعضائها؛ كما أنه ليس أحد أعضاء مجلس الشعب الذين يحكمون على مصر بمعايير خدمية محلية بحتة ترى أقصى طموحها أن يزور الرئيس الدائرة التى يمثلونها كى تزيل المحافظة القمامة وترصف الشوارع التى سيمر فيها الموكب فقط؛ كما أنه ليس أحد مثقفينا الذين زاروا الخارج ويعرفون المعنى الحقيقى للتقدم والنهضة واحترام حقوق الإنسان ولكن يخافون أن يمدوا خط النقد على استقامته حتى لا يطال السيد الرئيس، فينتقدون «مؤسسات الدولة» و«أحوال المجتمع» و«فساد الموظفين» و«تقصير الوزراء» و«عدم التنسيق بين المسئولين» دون أن ينفذوا إلى ما هو أهم من كل ذلك وهو من المسئول عن كل ذلك لمدة ثلاثين عاما؛ وأخيرا هو ليس عضوا فى جماعة محظورة يمكن القبض عليه باعتباره يهدف إلى قلب نظام الحكم من خلال العمل السرى.
هو ببساطة رجل محترم يعنى ما يقول ويقول ما يعنى وله من الخبرة ما جعله يدخل فى معارك سياسية بل وانتخابية ضد مخططات دول عظمى، والأهم من ذلك أنه مستعد وقادر على أن يدخل معترك الحياة السياسية المصرية من باب الرغبة فى إصلاحها وليس الاستفادة منها، فلا يمكن رشوته بفيللا فى الساحل الشمالى أو قطعة أرض فى التجمع الخامس مع حصانة برلمانية بالتعيين فى مجلس الشورى، كما يحلم كثيرون من سياسيى مصر المباركة. والأهم من كل ذلك أن كل هجوم عليه من «خلابيص السلطة» سيزيد تعاطف الناس معه وربما يعيد قطاعا واسعا من المصريين مرة أخرى إلى السياسة كمدخل لعلاج مشاكلهم العامة بعد أن استمروا لعقود يبحثون عن حياة أسعد فى دنيا الكرة بين أهلى وزمالك، ومصر والجزائر، وبين نجوم الفن بين عمرو وتامر، أو عبر انقسامهم بين أسماء وأصناف لدعاة هذا الزمن الذين يناضلون فى الاستوديوهات. إذن هو رجل يجمع مقومات القيادة التى تحتاجها مصر وأولها أنه لا يستصغر نفسه على المنصب الذى يشغله الرئيس مبارك.
ودعونى أرد على كثير من المتشككين بأن «ما فيش فائدة» وأن «أحمد كالحاج أحمد» وأن «مشاكل مصر وصلت لنقطة اللاعودة». التاريخ يقول لنا إن بنية المجتمعات تتغير بسرعة شديدة مع تولى القيادة السليمة لها.
ما الفرق بين مصر ما قبل 1805 ومصر ما بعد 1805؟ لقد تولى محمد على حكم مصر فى عام 1805، فأعاد تنظيم شئون الدولة، وغير شكل النظام الاقتصادى، وأرسل 350 مبعوثا للخارج كى يعودوا ويكونوا العقول المفكرة لآلة الدولة بما جعله يستفيد من طاقات المصريين فتحولت مصر مع عام 1813 إلى دولة نامية بحق حتى وصلت إلى قمتها بعد ذلك بسنوات معدودات. والأمر لم يكن بعيدا عن أسماء عظماء آخرين فى مجالات أخرى، لولا رؤيتهم وشجاعتهم ودأبهم وحسن إدراكهم لواقعهم لما نجحوا ولما أنجحوا المجتمعات التى عاشوا فيها. إن هؤلاء مثل حبات المطر التى تنزل على الأرض الجرداء فتخرج منها زرعا ما ظننا أن بذوره كانت موجودة قط حتى قال أهل اليأس فيها «أنى يُحيى هذه اللهُ بعد موتها»، فيكون الرد: «وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج». إن أرض مصر بحاجة لهذا الماء الذى هو بلغة الاقتصاد السياسى للتنمية: قيادة منتخبة ديمقراطيا فى ظل قواعد حكم رشيد ومؤسسات محكومة بأطر قانونية تُحترم من أفراد جهاز الدولة وتطبق على الجميع بلا فساد أو محسوبية.
إن الواقع المعاش يثبت أننا فى مصر نحتاج لقيادة من هذا النوع تستطيع أن تحقق المعادلة الصعبة التى قال بها المستشار البشرى: «قيادة تستطيع أن تصلح الماكينة وهى تعمل» فماكينة مصر شديدة العطب، عالية الصوت، كثيرة الفاقد، والمعضلة أن نصلحها وهى تعمل. والأمثلة ليست بعيدة عن قيادات نجحت فى أن تصلح العطب فى مجتمعاتها. فلنقرأ ما كتبه مهاتير محمد عن المجتمع المسلم فى ماليزيا فى كتابه (معضلة المالايو) وكان ذلك فى عام 1970، لقد كان الرجل يصف مجتمعه أوصافا نستخدمها نحن اليوم فى وصف مجتمعنا من كسل وسلبية وعدم احترام القانون وأنانية مفرطة والتزام شكلى بالإسلام، والرضا بأن نظل دولة متخلفة. حتى أن الحزب الحاكم فى ماليزيا آنذاك منع الكتاب من التداول نظرا للآراء الحادة التى تضمنها، وأصبح مهاتير محمد فى نظر قادة الحزب مجرد شاب متمرد لابد أن تحظر مؤلفاته.
غير أن مهاتير سرعان ما أقنع قادة الحزب بقدراته، وصعد نجمه فى الحياة السياسية بسرعة، وتولى رئاسة وزراء بلاده من عام 1981 لمدة 22 عاما، وأتيحت له الفرصة كاملة ليحول أفكاره إلى واقع، بحيث أصبحت ماليزيا أحد أنجح الاقتصاديات فى جنوب آسيا والعالم الإسلامى. والأمر لن يكون بعيدا عن النجاح الذى يشهده المجتمع التركى حاليا تحت زعامة رجب طيب أردوغان أو البرازيل تحت حكم لولا دى سيلفا. إذن كلمة السر هى القيادة. لكن كل قيادة تحتاج لأن تستعين بكل صاحب جهد ودراية فى مجالات العمل العام المختلفة. حتى إن وجد نظام متكامل فيظل هناك دور مهم للأشخاص القادرين على ابتكار الحلول والتفكير خارج الروتين النمطى.
وهو ما يعنى ضمنا أن مصر ليست بحاجة لتجديد القديم وإنما لبداية جديدة مع قيادة جديدة، ولا شك أن الدكتور البرادعى قبل دعوة مجموعة من المثقفين المصريين له أن يذهب إلى ما هو أبعد من تحليل الوضع واقتراح حلول له إلى أن يكون فى مقدمة كتيبة إصلاح أحوال الوطن.
وهو ما يعنى أننا كمواطنين مصريين بحاجة لأن نجمع بين الأمل والعمل. فأولا لا ينبغى أن نفقد الأمل فى مصر أفضل، فلو فقدنا الأمل، لماتت مصر. ومصر ما خُلقت لتموت، هى ممكن أن تتعثر وأن تتخبط لجهل حكامها وفساد القائمين عليها، لكنها فى النهاية قادرة على النهوض السريع إن وُجِد من يستطيع أن يوقظ فى أهلها الأمل. هى مبصرة لكنها لا ترى نورا. فعلى أبنائها المخلصين أن يكونوا هذا النور، كل فى حدود ما يستطيع بين من هم فى دائرة تأثيره.
وثانيا، البطاقة الانتخابية هى واحدة من أدواتنا الأساسية للمشاركة فى بناء الوطن. إن انتخابات مجلس الشعب المقبلة ستكون فى 2010 والانتخابات الرئاسية بعدها بعام.
وعلينا جميعا أن نقبل على إعطاء شهادتنا، قال تعالى «ولا يأبى الشهداء إذا ما دُعوا»، «ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه» وأن نشهد بالحق: هل يستحق من يحكموننا أن نكافئهم بالاستمرار فى مناصبهم: «فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور».
ولنتذكر الرسالة الأفلاطونية الشهيرة: «من يعزف عن المشاركة فى الحياة السياسية، فسيُعاقب بأن يحكم بمن هم دونه، ومن لا يراعون مصالحه». وهو تحد كبير يتطلب أن نتغلب معه أولا على الشعور بالإحباط وأن نندفع نحو الأمل اندفاع من يسير إلى قمة تل عال لا يعرف ما الذى سيجده وراءه، لكن أن نموت ونحن نحاول أفضل من أن نعيش أبد الدهر بين الحفر. ونسألُ الله الإخلاص والسداد والقبول.