عندما يفوز اقتصاد المشعوذين
بول كروجمان
آخر تحديث:
الأحد 26 ديسمبر 2010 - 10:37 ص
بتوقيت القاهرة
اعتقد أن أكثر الأشياء التى سوف تحير المؤرخين، عندما يعودون بنظرهم إلى أكتوبر 2008، هو انتصار الأفكار البالية. فقد كان أصوليو اقتصاد السوق الحرة مخطئين جملة وتفصيلا ــ رغم أنهم يهيمنون الآن تماما على المشهد السياسى أكثر من أى وقت مضى.
كيف حدث ذلك؟ فبعد أن دفعت البنوك التى أفرطت فى الإقراض بالاقتصاد الى الحضيض، كيف وصلنا فى نهاية المطاف إلى استيلاء رون بول، الذى قال: «لا أظننا فى حاجة لمنظمين»، على المجلس التشريعى الرئيسى الذى يشرف على بنك الاحتياط الفيدرالى؟ وبعد تجارب إداراتى كلينتون وبوش، الأولى رفعت الضرائب وقادت الوضع إلى نمو مذهل فى فرص العمل المتاحة، والثانية خفضت الضرائب، وقادت إلى نمو ضعيف حتى قبل الأزمة ــ هل ينتهى بنا المطاف إلى اتفاق كلا الحزبين على المزيد من تخفيضات ضريبية؟
يجيب اليمينيون على ذلك بأن الفشل الاقتصادى لإدارة أوباما يوضح عدم نجاح سياسات الحكومة التى تتدخل بشدة. لكن الرد يجب أن يكون حول ماهية السياسات، التى تتخذها الحكومة التى تتدخل بشدة؟
وفى الحقيقة، كانت الحوافز التى أدخلها أوباما ــ وهى نفسها تخفيض ضريبى بنسبة 40% تقريبا ــ أكثر أهمية من تصحيح مسار الاقتصاد. ومنذ البداية حذر اقتصاديون كثيرون، وأنا منهم، من عدم ملاءمة الخطة بشكل صارخ. فلنضع الأمر على هذا النحو: السياسة التى فى ظلها ينخفض التوظيف الحكومى فعليا، وفى ظلها يكون إنفاق الحكومة على السلع والخدمات أكثر بطئا من فترة بوش، لا يمكن أن تكون اختبارا للنظرية الاقتصادية الكينزية.
والآن، ربما لم يكن متاحا للرئيس أوباما أن يحصل على المزيد فى مواجهة كونجرس يتشكك فى الحكومة. لكن حتى إذا كان هذا صحيحا فهو لا يوضح سوى سيطرة مذهب فاشل على سياساتنا بصورة متواصلة.
الجدير بالذكر، أن كل ما قاله اليمين حول الأسباب التى من شأنها إفشال منهج أوباما الاقتصادى أثبت خطأه. فقد قالوا إنهم حذروا خلال عامين من أن تؤدى استدانة الحكومة إلى رفع أسعار الفائدة بصورة هائلة، وفى الحقيقة، تقلبت الأسعار وفقا للشعور بالتفاؤل والتشاؤم حول الانتعاش، لكنها ظلت منخفضة بشكل ثابت وفقا للمستويات التاريخية، وقالوا إنهم حذروا خلال عامين من أن التضخم، بل التضخم المفرط، قاب قوسين أو أدنى، وبدلا من ذلك، استمرت نسبة التضخم فى الانخفاض، حتى صارت نسبة التضخم الأساسى ــ الذى يستثنى أسعار المواد الغذائية والطاقة ــ مساوية لما كانت عليه منذ نصف قرن.
وأخطأ أصوليو اقتصاد السوق الحرة حول الأحداث بالخارج مثلما خالفهم الصواب بشأن الأحداث فى أمريكا أيضا ــ إذ عانوا بالخارج عواقب أقل بالقدر نفسه. ففى أيرلندا، أعلنوا جورج أوزبورن عام 2006، «باعتباره مثلا ساطعا على فن الممكن فى صناعة السياسة الاقتصادية فى المدى الطويل». والمفاجأة أن السيد أوزبورن يمثل الآن أكبر مسئول اقتصادى فى بريطانيا.
وفى وضعه الجديد، يشرع فى مضاهاة سياسات التقشف، التى طبقتها أيرلندا بعد انفجار الفقاعة بها. وقد أمضى المحافظون على جانبى المحيط الأطلسى قسما كبيرا من السنتين الماضيتين فى الإشادة بالتقشف الأيرلندى باعتباره يمثل نجاحا باهرا. إذ أعلن آلان رينولدز من معهد كاتو فى يناير الماضى أن «المنهج الأيرلندى كان ناجحا فى الفترة من 1987 إلى 1989- ويعمل الآن بنجاح». وحدثت المفاجأة مرة أخرى.
لكن لا يبدو مثل هذا الفشل ذا شأن. ولنستعير عنوان الكتاب الأخير للاقتصادى الأسترالى جون كويجين حول فكرة أن الأزمة تم القضاء عليها، ولكننا مازلنا ــ ربما أكثر من ذى قبل ــ محكومين بواسطة «اقتصاد الموتى الأحياء أو اقتصاد المشعوذين «zombies» فلماذا؟
من المؤكد أن جزءا من الإجابة يتمثل فى أن الذين حاولوا القضاء على أفكار الموتى الأحياء، كانوا يحاولون بدلا من ذلك إيجاد حل وسط معها. وهذا حقيقى بشكل خاص بالنسبة للرئيس، وإن كان لا يقتصر عليه.
غالبا ما نسى الناس عمل رونالد ريجان الدائم على تأسيس سياسات جوهرية ــ أبرزها ما سنه فى النهاية من قوانين تضاعف الزيادة الضريبية. لكنه لم يتردد بشأن الأفكار، ولم يتراجع عن موقفه من أن إيديولوجيته صحيحة وأن معارضيه مخطئون.
وعلى العكس، يحاول الرئيس أوباما باستمرار اجتياز الممر من خلال تلمس الأعذار للأساطير اليمينية. ويشيد بريجان بسبب استعادته للديناميكية الأمريكية (متى كانت آخر مرة تسمع فيها شخصا يشيد برزوفلت؟)، ويتبنى خطاب الجمهوريين حول ضرورة تقليص الحكومة لنفقاتها حتى فى مواجهة الركود، واقترح تجميد رمزى للإنفاق والأجور الفدرالية.
لم يمنع كل ذلك اليمين من إدانته باعتباره اشتراكيا. لكنه ساعد فى تمكين الأفكار السيئة، على النحو الذى يمكن أن يكون مضرا تماما. وحتى الآن، يشيد السيد أوباما بالاتفاق حول التخفيض الضريبى باعتبار أنه يحقق دفعة للاقتصاد ــ لكن الجمهوريين يتحدثون بالفعل عن تخفيض الإنفاق، الذى من شأنه إحباط أى تأثيرات إيجابية لهذا الاتفاق. فما هو السبيل لمعارضة هذه المطالب بفاعلية، إذا كان هو نفسه يتبنى خطاب شد الحزام؟
صحيح أن السياسة هى فن الممكن. ونفهم جميعا أهمية التعامل مع الخصوم السياسيين لشخص ما. لكن إذا كان هناك شىء واحد من أجل عقد الصفقات الرامية إلى تعزيز أهدافك، فلن يكون فتح الباب لأفكار الشعوذة، وعندما تفعل ذلك، ينتهى بك المطاف إلى أن يأكل المشعوذين اقتصادك أيضا، إلى حد بعيد.