تركيا والغرب وانتقام التاريخ

بسمة قضماني
بسمة قضماني

آخر تحديث: الأربعاء 27 يناير 2010 - 10:25 ص بتوقيت القاهرة

 تطرح تركيا نفسها فى دور اللاعب الشاب الذى يدخل ساحة لعبة الدول الكبرى كعنصر جديد ملىء بالحيوية والنشاط، يتحرك بسرعة، يلتقط الكرة من أى زاوية ويجرى بينما ينظر اللاعبون الآخرون بدهشة وهم قد شاخوا وتعبوا ولكنهم ما زالوا يعتقدون أنهم قادرون على وضع قواعد اللعبة وتحديد هوية المشاركين فيها.

يجول المسئولون الأتراك فى العواصم الأوروبية كما يفعلون فى دول المنطقة العربية والإسلامية. ولكن الخطاب تجاه الأوروبيين اختلف، فلقد استوعبوا التحفظات الأوروبية تجاه انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبى، بل الرفض الصريح من جانب بعض الدول الأعضاء والقادة الجدد فى بروكسل، ولقد قرروا أن يعدّلوا خطابهم وسلوكهم من التلميذ الصبور الذى ينتظر تقييم الأساتذة الكبار لكفاءته وجدارته للالتحاق بالنادى الأوروبى ليصبحوا قوة إقليمية متعددة الأوجه والتوجهات، وهى بالفعل نمر اقتصادى صاعد لديه ما يقدمه من فرص للتعاون والشراكة البناءة، وأيضا، من القدرة على تقييم النظام العالمى الجديد وتقديم رؤية خاصة لما هى الأولويات والاحتياجات فى ظل تغيرات موازين القوة فيه. المقاربة ذكية ولكنها مبنية على القيم الأساسية التى ينبغى أن تشكّل ركائز النظام العالمى حسب ما حددته الدول الغربية نفسها مثل التوفيق بين الأمن والحرية فى المجال السياسى، والتوفيق بين الفاعلية والعدالة فى المجال الاقتصادى، والملاءمة بين الكرامة والتجانس فى المجال الثقافي. فبعد إعلانهم انتماءهم إلى هذه الركائز، انصرفوا إلى إثبات أن الغرب فشل فى تحقيق أى إنجاز فى أى من هذه المجالات.

إذا كان هدف النظام السياسى هو الأمن والحرية معا، فعلى الولايات المتحدة أن تقرّ بأنها غير قادرة على تأمين أى من الاثنين. فمنذ نهاية الحرب الباردة، لم يعد يوجد هناك خطر وجودى يبرر ضرورة الانضباط ضمن حلف عسكرى والانصياع لقيادة موحدة، ولم تعد أنقرة مرغمة على تقديم مصالح الدول العربية على حساب مصالحها.

لقد كان الحلف الأطلسى عاجزا عن إعادة هيكلة مهامه منذ عشرين عاما وهو يركّز على استبدال العدو بعدوٍ آخر لا بد أن يأتى من الجنوب، فجاء بن لادن وزود الأمريكيين والأوروبيين بما يكفى لملء خيالهم وعقيدتهم وقادهم إلى حربٍ مفتوحة ضد الإرهاب، وبالتالى، نقلهم إلى عقيدة التدخل / الاحتلال، وتكريس جهود مالية وبشرية لا قدرة لهم على تحملها. وبينما انشغلوا بتدبير هذه القدرات الهائلة لخدمة هذه العقيدة، فشلوا فى وضع مفاهيم للتعامل مع جوهر القضايا وتعزيز الأمن المشترك. من جهتها، رفضت تركيا أن تتبع هذا المنطق الذى كان سيقودها إلى معاداة جيرانها ومحاولة تحصين أراضيها. وتحررت من الانضباط الأطلسى دون أن تنقلب عليه، لتتقرب بالتالى من جيرانها وتقيم علاقات تعاون وتفتح حدودها وتنسّق مع العراق السنى والشيعى والكردي، وترفض أن تصوّت لصالح تشديد العقوبات على إيران عندما يطرح القرار فى الهيئة الدولية للطاقة الذرية. فهى بعدما تضررت مصالحها الحيوية أثناء الحرب على العراق أكثر من أى عضو آخر فى الحلف الأطلسى، تعلن عدم استعدادها لمواجهة خطر حرب جديدة على إيران وتحمّل الأضرار التى سوف تنتج عنها.
وهى تطرح نظرية المساواة فى الأمن بين العرب والأكراد، بين السنة والشيعة، وبين الفلسطينيين والإسرائيليين. إن هذا الأمن غير المتأثر بأى شكل من أشكال التعصب، لن يأتى إلا من خلال التعاون الاقتصادى مع بغداد وأربيل ودمشق وطهران مما يؤدى إلى أن يؤمن لتركيا أسواقا واسعة وصفقات هائلة. بهذا التعاون الاقتصادى والحوار السياسى، تطبّق تركيا التجربة الأوروبية التى قادت إلى بناء استقرار أمنى للقارة بعد الحرب العالمية الثانية من خلال بناء سوق مشتركة. ويقول القادة الأتراك بأنهم يقيمون هذه العلاقات لتعزيز أمنهم ولكن هذه السياسة هى وحدها القادرة على تعزيز أمن أوروبا وحمايتها من الأخطار التى تخشاها. وعلى الأوروبيين إذا أن يرحبوا بهذه السياسة التركية الجديدة لأنهم بحاجة لهذا الدور التركى بعد أن فشلوا فى ضمان الأمن أو الحرية.

وبالنسبة للأهداف الاقتصادية، يدّعى الغرب أنه يسعى إلى التوفيق بين الفاعلية والعدالة، ولكنه فى الواقع يفعل كل ما هو مطلوب لتأمين الفاعلية من خلال مشاورة القوى الكبرى فى قمم الدول العشرين، ولكنه لم يحقق أى تقدم فى مجال العدالة ويستمر فى حماية نظام اقتصادى يهدد أمن العالم أجمع.

أما فى المجال الثقافى، فهنا يتجلّى القادة الأتراك فى طرح رؤية هى فى الواقع عملية تلقين دروس للغرب وللأوروبيين تحديدا. لقد قادت أوروبا العالم لقرنين من الزمن وهى اليوم أمام سؤال مصيرى: هل تكون قائدة أو تابعة فى العقود الثلاثة المقبلة؟ مشكلتها الأولى هى عدم رؤيتها للتحولات من حولها مثل كل القوى المسيطرة عندما تكون جالسة فى السلطة، ومثل ما كان العثمانيون أنفسهم. فأوروبا تتبنّى نظرية نهاية التاريخ بمجرد أنها لم تعد تصنع التاريخ. فصنع التاريخ ينتقل الآن إلى بلدان أخرى، وعلى أوروبا أن تعى أن دورها سوف يستمر فى الانحدار إلا إذا ما قامت بعملية تجديد سيكولوجى لتبقى قوة دافعة فى تطوير الاقتصاد العالمى ومواكبة التطورات الثقافية.

المشكلة الثقافية الثانية هى أن المدن الأوروبية الكبرى أصبحت معولمة بسبب التعدد الإثنى والثقافى لسكانها، ولكن الأنظمة السياسية للبلدان الأوروبية لم تتخذ بعد نهج العولمة هذا، تاركة بالنتيجة فجوة تتعمّق بين الواقع الاجتماعى وبين السياسة. هنا يصبح السؤال كيف يتم تقييم الديمقراطية؟ إن جوهر النظام الديمقراطى هو قدرة مؤسساته على صياغة أجوبة وسياسات تتناسب مع تحوّل الشارع، وتحمى التوازن والتناسق الاجتماعى وليس فقط من خلال الانتخابات الحرة وعبر حرية التعبير وغيرها من أشكال الممارسة الديمقراطية. إن الرسالة واضحة: بهذا المعيار، أى معيار القدرة على تقديم الأجوبة الملائمة لمواجهة التحديات، ربما تكون تركيا وغيرها من الدول الصاعدة الجديدة فى طريقها للتفوق على أوروبا.

هكذا يجيب اليوم القادة الأتراك على تحفظات أوروبا تجاه طلب تركيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبى: فتركيا لا تقبل أن يتم تخييرها بين التوجه نحو أوروبا أو نحن الشرق الأوسط والعالم الإسلامى لأنها تنتمى إلى فئة الدول المتعددة الاتجاهات والانتماءات الإقليمية بسبب موقعها الجغرافى كما هو الحال بالنسبة للبرتغال مثلا، فهل يشكك أحد فى انتماء البرتغال إلى أوروبا بسبب علاقاتها المتينة مع البرازيل؟

أما نحن فى المنطقة العربية، فعلينا أن نستوعب هذه الرؤية والدوافع التى أدت بتركيا إلى التوجه نحو الانفتاح والتعاون تجاه عالمنا ليس فقط بالترحيب ووضع كل الآمال فى القيادة التركية الحكيمة، ولكن أيضا بتنشيط العلاقات العربية ــ العربية لكى تشعر تركيا بأن هناك فضاء إقليميا حقيقيا تستطيع من خلاله أن تتعامل مع أعضائه كشركاء أساسيين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved