السودان الذى لا نعرفه: كلام عند الجذور
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأربعاء 27 فبراير 2019 - 11:35 م
بتوقيت القاهرة
كان استقلال السودان عام (١٩٥٦) صدمة كبيرة اهتزت لها الحياة المصرية.
استقر لعقود طويلة فى الخطاب العام مفهوم «السيادة المصرية على السودان»، دون التفات إلى أن العالم قد تغير، والسودان تغير، وحل محله مفهوم آخر هو «وحدة وادى النيل تحت التاج المصرى» ترتيبا على معاهدة (١٩٣٦) التى وقعها الزعيم الوفدى «مصطفى النحاس» مع سلطات الاحتلال البريطانى.
كان السؤال الرئيسى: ما الطريقة التى تتحقق بها وحدة وادى النيل ـ من خلال المفاوضات بين دولتى الحكم الثنائى، وهو ما تمسك به المصريون، أم من خلال حق تقرير مصير السودانيين، وهو ما تمسك به البريطانيون؟
وفق عميد المؤرخين المعاصرين الدكتور «يونان لبيب رزق»، فإن مصر سلمت عام (١٩٥٠) بحق تقرير المصير، حين كان الدكتور «محمد صلاح الدين» وزيرا لخارجية حكومة «الوفد» الأخيرة، وهو رجل مشهود له بوطنيته وكفاءته.
الأسباب التى أفضت إلى استقلال السودان تتعدد وتتداخل، أهمها أن «الاتحاديين» الذين اكتسحوا انتخابات الجمعية التأسيسية صوتوا ضد الوحدة فى اللحظة الأخيرة، على عكس كل التوقعات والرهانات، وحسموا الأمر فى الجمعية التأسيسية دون انتظار موعد الاستفتاء الشعبى ـ حسبما نصت اتفاقية تقرير مصير السودان، التى وقعها اللواء «محمد نجيب» مع السفير البريطانى فى القاهرة السير «رالف ستيفنسون».
بموجب الاتفاقية تقرر انسحاب القوات المصرية والبريطانية فور صدور قرار من البرلمان السودانى برغبته فى الشروع باتخاذ تدابير تقرير المصير.
كان أمام الجمعية التأسيسية السودانية الاختيار بين الارتباط بمصر على أية صورة، أو الاستقلال التام.
وكان الدور البريطانى حاضرا ومؤثرا فى التحريض على فصم أية علاقات وحدوية بين البلدين الشقيقين.
وقد كانت لأبهة السلطة تأثيرها على من آلت إليهم قيادة المرحلة الانتقالية على ما يؤكد ـ «يوسف الشريف» أكثر الصحفيين المصريين اقترابا من «السودان وأهله» ـ وفق عنوان أهم كتبه.
كما كان لحل الأحزاب وتحريض الشيوعيين الذين لم يبدوا حماسا لحكم «الضباط الأحرار» و«الإخوان المسلمين» بعد المحاكمات التى جرت عقب محاولة اغتيال «جمال عبدالناصر» عام (١٩٥٤)، فضلا عن أخطاء جسيمة فى إدارة الملف ارتكبها «صلاح سالم» عضو مجلس قيادة الثورة أدوار فى الوصول إلى تلك النقطة غير المتوقعة.
هناك من يركز على أن عزل اللواء «نجيب»، ووالدته من أصول سودانية، هو السبب الجوهرى للاستقلال.
حسب شهادته هو نفسه فإنه فوجئ عند زيارة الخرطوم فى الأول من مارس (1954) للمشاركة فى افتتاح الجمعية التأسيسية بهتاف يستقبله: «لا مصرى ولا بريطانى.. السودان للسودانى».
عزل «نجيب» أثر على اتجاهات القرار السودانى، لكنه لم يكن العنصر الأساسى فيه.
وقد يدخل فى أسباب الاستقلال لغة التعالى التى يشتكى منها السودانيون حتى اليوم.
هناك ما يشبه الأمية المعرفية بالسودان مستعصية وممتدة بلا سبب مفهوم أو مقنع حتى تكاد حقائقه الأساسية غائبة، قواه السياسية وخرائطه الاجتماعية والثقافية، انتفاضاته وانقلاباته وتطلعاته المجهضة مرة بعد أخرى للتحول إلى دولة ديمقراطية حديثة.
رغم أية أخطاء سياسية أفضت إلى تغليب خيار الاستقلال فى الاستفتاء على تقرير مصير السودان، إلا أن الاستفتاء نفسه حق أصيل لا يمكن المنازعة فيه وتقبل نتائجه قيمة سياسية لا يصح التشكيك فيها.
دأبت أعداد كبيرة من السياسيين والصحفيين المصريين على وصف الاستقلال بـ«الانفصال» دون تدقيق فى حمولات الأوصاف وتبعاتها، إذ قد ينظر إلى وصف الانفصال باعتباره إنكارا على السودانيين أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم.
الأسوأ من ذلك كله ـ كما يلاحظ مؤرخ مدقق كالمستشار «طارق البشرى» ـ «لم تكن للحركة الوطنية المصرية منذ مطلع القرن العشرين حركة وحدوية تستهدف توحيد مصر والسودان، لم يحاول حزب واحد أن يتكون على أساس جامع من مصريين وسودانيين، ولا حاول جادا أن ينشط بين السودانيين، كما ينشط بين المصريين، ولا أن يبنى تشكيله من أهل البلدين معا».
«حزب الوفد نفسه لم يدخله سودانى ولا نشط فى السودان منذ نشأ حتى انتهى».
بعد استقلال السودان أطلق «عبدالناصر» جملة شاعت: «السودان المستقل قوة وسند لمصر، وهو خير من السودان الضعيف، الذى يختلف أهله حول وحدة وادى النيل».
كانت تلك الجملة تعبيرا عن حقائق وصلات لا تحليقا فى نزعات هيمنة.
فى توقيت متزامن بين عامى (1953) و(1954) بدت اتفاقية الجلاء داعية إلى مساجلات مصرية أخرى.
لم تكن اتفاقية الجلاء مثالية وشابتها مثالب جوهرية.
وفق نصها: «تجلو حكومة المملكة المتحدة جلاء تاما عن الأراضى المصرية».. غير أنها اشترطت «فى حالة وقوع هجوم مسلح على أى بلد يكون عند توقيع هذا الاتفاق طرفا فى معاهدة الدفاع المشترك بين دول الجامعة العربية، أو على تركيا أن تقدم مصر من التسهيلات ما قد يكون لازما لتهيئة قاعدة قناة السويس للحرب وإدارتها إدارة فعالة».
بملاحظة ثاقبة أخرى للمستشار «طارق البشرى» ـ «لم يكن الفارق بين اتفاقية الجلاء ومعاهدة 1936 فى النصوص بقدر ما كانت فى الأرض، التى تحركت عليها النصوص، وفى الأيدى التى تحركها، وفى تغيير الأوضاع الاجتماعية والسياسية، على التحديد طرد الملك وإلغاء النظام الملكى وتحديد الملكية الزراعية».
فى (١٨) يونيو (١٩٥٦) أُجلى آخر جندى بريطانى عن مصر غير أن الاستقلال الحقيقى لم تحصل عليه غير بالدماء التى بذلت فى حرب السويس بعد تأميم الشركة العالمية لقناة السويس «شركة مساهمة مصرية» فى (٢٦) يوليو من نفس العام بعد أسابيع معدودة من الجلاء.
بقوة نتائج حرب السويس تعالت نداءات الوحدة العربية، وكان السودان ميدانا مفتوحا للآمال الجديدة ومشدودا بكتله الجماهيرية الغالبة إلى القاهرة.
إثر الهزيمة العسكرية الفادحة عام (1967) خرجت مئات الألوف إلى شوارع الخرطوم تستقبل «القائد المهزوم» فى مشهد تاريخى استثنائى رسائله لا تخفى عن عمق ما يجمع المصريين والسودانيين فى أوقات المحن.
القصة كلها تحتاج إلى مراجعة عند الجذور.
ما بعد استقلال السودان مرت مياه كثيرة تحت الجسور، ارتبكت الخطى بين انقلابات عسكرية لم تتوفر لها شرعية شعبية تستند إليها وحكومات مدنية لم تتقدم بالسودان إلى بنى حديثة تؤسس لدولة مؤسسات وقانون، أجهضت انتفاضات لكن المطالب نفسها لم تخمد وأعلنت عن نفسها مرة بعد أخرى.
المشكلة ليست فى التضامن مع السودان وأهله، فهذه بديهية، بقدر التنبه لشبه الأمية المعرفية التى تصطنع الأزمات أحيانا وتصادم الشعوب غالبا.