تشبيك
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 27 فبراير 2019 - 11:30 م
بتوقيت القاهرة
سمعت كلمة «تشبيك» للمرة الأولى منذ نحو خمس عشرة سنة من صديقة أوروبية عاشت فى القاهرة قبل أن تنتقل إلى دمشق، فهيئ لى أنها أتت بمصطلحات جديدة علىّ. استخدمت الكلمة أثناء حديثها عن العلاقات الإنسانية والدوائر التى نتحرك فيها داخل البلد أو خارجه، وتداخل الدوائر بعضها ببعض. استوقفنى التعبير وقتها وتساءلت من هو العبقرى الذى أدرج الكلمة ضمن مفردات الروابط والجهد المبذول فى بناء شبكة من العلاقات.
***
لبعض الكلمات أثر بصرى وباستطاعتى أن أتخيلها. أرى مجموعة من الناس فاتحين أذرعتهم يمسك كل منهم بيدى من يجاوره من الطرفين، أراهم يتوسعون بحيث يغطون مساحة تتوسع مع كل انضمام لشخص جديد يمسك بيد من سبقه إلى المجموعة، وهكذا تكبر المجموعة ويصغر الأشخاص بحيث لا أعود قادرة على تمييز تفاصيلهم بوضوح إنما أراهم مساحة تنتشر. أرى بين الأجساد ألوانا وأشكالا كثيرة، من بينها مبان معروفة أو أشجار وخضرة أو مياه وبحار.
***
أتذكر كلمة تشبيك وصديقتى الأوروبية أثناء لقائى بالصدفة بشخص لم أره منذ نحو عشرين عاما. نمر سريعا على محطات حياتنا وقصص تتعلق بالعمل والتنقل والسياسة والعائلة والأولاد. نتوقف كثيرا عند أسماء أشخاص يتذكرها أحدنا وقد نسيها الآخر، ثم ما نلبث أن نتذكر معا تفاصيل عنهم ونسترجع أخبارهم. الصديق من المكسيك، متزوج من سيدة إيطالية ويعيش مع عائلته فى موسكو، بعد أن تنقل بين آسيا وإفريقيا منذ رأيته آخر مرة. أحدثه بدورى عن زواجى برجل مصرى وتنقلى معه بحكم عملنا. هكذا وفى أقل من ساعة، نعرج معا عبر قصصنا على عدة بلاد ونحو ثلاثين صديقا وصديقة مشتركين.
ثم نسكت ويغرق كل منا لدقائق فى تأمل وننتبه، حين نعود للحديث، أننا كنا نفكر بمفهوم التشبيك والشبكة والعلاقات الإنسانية. اليوم تعج الأخبار بقصص الهجرة والنزوح، رغم أن الإنسان لم يتوقف قط عن الحركة وأن جزءا كبيرا من التاريخ البشرى مبنى على تغيير مستمر لمكان العيش، سواء بهدف البحث عن المأوى أو الطعام أو للتجارة أو لأسباب أخرى. مع كل تغيير، يأخذ أحدنا معه مخزونا من القصص والتفاصيل، يحمل فى قلبه علاقات يعرف أنها كانت سنده فى محطته السابقة. هى علاقات أصبح من السهل اليوم أن تستمر رغم البعد، فسهولة التواصل بما فى ذلك عبر شبكات التواصل الاجتماعى تتيح للفرد أن يفتح شباكا على حديقة من يحب ولو بشكل افتراضى.
***
لست هنا بموجب تقييم دور التواصل الافتراضى ولا المقارنة بينه وبين فنجان قهوة أشربه مع صديقة على شرفة بيتى أو بيتها، إنما تذهلنى دوما إمكانية البقاء على تواصل مع أشخاص لم أرهم منذ سنوات، ثم سهولة الحديث معهم حين أجلس فعلا أمامهم بعد انقطاع.
هناك سحر متجدد فى العلاقات الإنسانية، هناك جزء خارج المنطق تماما فى صداقات تتعمق على صفحات زرقاء، جمال لا ينتهى فى لقاء مع أشخاص ظهروا بعد حين فالتقطوا حديثا بدأ فى زمان ومكان بعيدين، لكن ها هو الخيط السحرى يربط بين ذلك الزمن واليوم، يشبك المكان البعيد بال «هنا»، تماما كمن يمد يده ليمسك بيد امتدت فوق البحر والتقطته قبل أن يغرق.
***
تلتقطنى أنا أيضا صديقة قبل أن أغرق فأطفو معها على بحر من الكلمات تعيد إلى الشعور بالأمان. أسبح فى صور تعيدها الصديقة إلىّ، كنت قد نسيتها منذ آخر مرة التقيتها. أرفع رأسى بحثا عن الشبكة فأجدها تحيطنى من كل جهة. هى شبكة نسجناها معا على مدى سنوات، قد يظهر لأول وهلة أن ألوانها كثيرة وغير متناسبة إلا أن نظرة شمولية عليها كفيلة بكشف دقة النسيج وتداخل بعض ألوانه بالأخرى، يستخدم الأمريكان مصطلح «زراعة» فى وصف عملية الحفاظ على شبكة العلاقات، بمعنى أن ثمة جهدا يجب أن يبذل، بأشكال مختلفة، لمراعاة من هم جزء من الشبكة. أكتشف مع الوقت أن لا قواعد راسخة لتلك الزراعة، أو لعملية مراعاة الصداقات، فلكل منا طريقة يفضلها أو أسلوب للتعامل، إنما يبدو لى أنه من الصعب العيش دون مستوى أدنى من الرعاية لتلك النبتة ــ الشبكة، فهى بحاجة إلى العناية حتى لو كانت عناية غير منتظمة، وهنا لعبت شبكات التواصل الاجتماعى دورا فى سد الفراغات حين يتعثر اللقاء.
***
هى شبكة قد تبدو خيوطها شفافة حتى أنها تكاد لا تظهر أحيانا، لكنها تلتف حولى حين أبدأ بالغوص، لا أصل إلى القاع لأنها تشدنى إلى أعلى. أنظر مجددا فأرى الألوان، هى ليست شفافة أبدا إنما تظهر ألوانها فى يوم مظلم كزينة أعياد الميلاد، حمراء وخضراء وصفراء، مبهجة وترفع من أمام عينى ستارة داكنة. شبكة من الألوان والأصوات كفيلة بأن تجعلنى أندم على مواعيد لم أحترمها وأعياد ميلاد لم أشارك بها. هى شبكة تماما كتلك التى يرميها الصياد فى الماء ويخرج معها خيرات البحر، فينظر فى الأفق والمركب من تحته يتهادى فوق الموج. أتعرفون بماذا يفكر فى لحظتها؟ يحمد الله على أن شبكته متينة ومليئة بالجمال.