بعض من القبح وكثير من الأسمنت
خولة مطر
آخر تحديث:
الأحد 27 فبراير 2022 - 8:40 م
بتوقيت القاهرة
تتصور أنها خيانة الذاكرة أو ربما حسنتها أن لا يبقى من ذاك الزمن الملىء بالكثير من الأحداث والفواصل بعضها مصيرى والآخر خيل لك فى تلك اللحظة أنه مصيرى أيضا.. كنت قد نزعت فتيل ذاك الرابط المقدس به، أو هكذا تصورت ورميت بالتصورات المثالية عنه بقاع ذاك الخليج القريب ولم تلتفت أبدا إلى الخلف.. ربما تكون قد فعلتها أحيانا لتحول ذاكرتك لتكون حسب الاختيار فتخزن ما تشاءه أن يبقى وتمحو الكثير من ما شابه بعض القبح أو الحزن أو حتى التفاهة البحتة.
• • •
قلت لن أسقط فى قاع ذاك البئر الملىء بالمثاليات ولن أسمح لهم أن يجعلونى أحلق معهم فى السماء الأعلى بين كم كثيف من الغيوم.. لم يعد ذاك الذى يسمى وطنا يشبه ما كان فى الصغر ولا فى كتب الأدب والشعر القديم ولا حتى فى حكايات جدتى وأمى ولا ما قاله أبى فى ليلة بدت شديدة العتمة رغم النيون الخارق للأنظار.
• • •
بعد عملية شاقة استغرقت سنين طويلة قلت الوطن هو المكان الذى يحتضنك
وربما هو ذاك الذى يشبهك أو حتى يبقى على ذكريات طفولتك الأولى، ولكنهم لم يشاءوا أن يحافظوا حتى على تلك الصور سوى ما تصوروا هم فى عقولهم المسطحة أو ربما شديدة الجهل والسذاجة وبعض النفاق، أو حتى ما خلقوا منه وطنا لهم ورموا بكل التفاصيل الأخرى بين أنقاض المبانى العريقة والشواطئ التى سحقتها الجرافات.
• • •
حتى الشوارع أطلقوا عليها تسميات لا تشبه إلا هم ولا تعنى لنا نحن ما يطلق علينا أحيانا لقب «مواطن» وأحيانا أخرى «رعية» وثالثة مجرد فرد لا يستحق حتى حياة بسيطة فى وطن بسيط.. كلما عدت زادت سطوة الأسمنت وزحف الجرافات فتمضى لتقول إنها المدنية وهى فى كل مكان.. أحيانا تصبر نفسك بالقول إن ذاك المبنى العريق الذى رفض ذاك الأمير فى أعرق ملكية دستورية بالعالم أن يبيعه لتجار قادمين من وراء البحار حاملين براميل النفط ورزما من الأموال! هو الآخر لم يستطع مقاومة غواية أموال النفط فخضع وزحفت جرافاته هو لتنهى على كل ما كان يقول عنه إنه تراث وطنى لا يحق لأى شخص مهما كان أميرا أو ملكا أن يهده أمام أعين المارة لتسكن مكانه بناية لا تشبه مدينة الضباب ولا تاريخها العريق.
• • •
لا.. لا.. لا شىء يبقى فى تلك المدينة فتحافظ على ملامحها رغم براميل نفطهم وشنط الدولارات والذهب.. أما هنا فتبحث بين كل هذا الكم من المبانى التى لا تمت لهذا البلد بأية صلة ولا تعبر عن فهم حقيقى لطبيعة مناخها وشمسها الحارقة.. تدير رأسك محاولا أن تبحث عن ذاك الجسر.. لا هو ليس أى جسر بل هو الجسر الأول وللجسور حيوات لا تنتهى وقصص للعاشقين والمحبين للبحر والحب والقمر والنجوم.. ذاك الذى قالوا لك إنه كان يفتح لتمر السفن فتتعطل حركة العربات، وفى تلك الليلة التى قررتِ الخروج من بطن أمك وصرختِ وأكثرتِ الرفس والركل حتى وصل صراخها المسكينة إلى آخر زقاق فى المدينة – الجزيرة، وعندما حملتها النسوة وراح سائق تلك السيارة يحذرهن أن أى تأخير قد يعنى أنهن لن يصلن إلى المستشفى فقد يكون الجسر قد فتح لتمر السفن وهكذا كان وحصل.. بقيت هى تصرخ وأشرعة السفن تمر أمامها ولا مفر من العودة والولادة فى المنزل.. أين ذاك الجسر حتى هو أصبح شيئا من الماضى أم سيتحول هو الآخر ليكون جزءا من المعالم السياحية كما تلك البيوت الكثيرة التى تحولت إلى أماكن ببعض روح أو منزوعة منها إلا ما تبقى لبعضنا من ذكريات بدأت تزحف عليها عوامل التعرية الفكرية والزمنية.
• • •
تعود فى كل مرة لتبحث عنه.. تتحسس تفاصيل ذاك الذى يسمونه وطنا حتى الوجوه تغيرت والعادات أيضا وأكثر ما يثير غضبك أو ربما شفقتك هو انبهار سكان هذا الوطن فقد يصعب تسميتهم بالمواطنين، أكثر ما يغضبك هو السعادة اللامتناهية بالتطورات التى يسمونها «عمرانية» أو مدنية أو ربما حتى حضارية.. أما القليلون الذين يستطيعون قراءة الحسرة فى عينيك فهم من يقولون ما زال بهذه البلاد بعض منا ومنك فابحثى عنه ربما فى قاع بحر أو صدفة لؤلؤة.. محزن أن تبحث عن وطن فلا تجده بين زحمة من الأسمنت والقبح اللامتناهى.