شيطان في مملكة القيصر
حسن المستكاوي
آخر تحديث:
السبت 28 مارس 2009 - 2:32 م
بتوقيت القاهرة
"غارة جوية أمريكية على السودان"
كان ذلك هو مانشيت «الشروق» صباح الثلاثاء الماضى.. تناول ضرب
قافلة مكونة من 17 شاحنة يقال إنها تحمل أسلحة مهربة إلى غزة. وكان ذلك انفرادا فى زمن عزت فيه الانفرادات الصحفية بمعناها الحقيقى فى مواجهة الإعلام المرئى. وكانت تلك أيضا قصة مهنية أحيت داخلنا هذا الحب الجارف للمهنة والشوق إليها. وأذكر أننا عندما تلقينا تفاصيل الغارة الجوية، دخلنا مكاتبنا، وأغلقنا أبوابها، وأخذنا نقرأ بنهم، كأنه خطاب رومانسى من الحبيبة الأولى حين كنا نقرأ كلماتها ونكرر القراءة شوقا واستمتاعا!
لكن رد الفعل عند الصحافة المصرية والعربية لقصة الغارة الجوية على السودان كان الصمت التام أولا. وبدا لنا الأمر أننا أمام مجموعة من الرجال الذين وقفوا أمام سيدة آية فى الجمال، فبهرهم جمالها لدرجة أنهم جميعا توجهوا بعيونهم إلى الأرض خجلا من جمال تلك السيدة أو خوفا من فتنة جمالها.. ففى بعض الأحيان حين تنفرد صحيفة أو ينفرد صحفى بقصة شديدة التميز فى المجتمع العربى يكون رد الفعل هو نفس رد الفعل الذى قابلناه..
وقد تابعنا قصة الغارة الجوية على السودان، فعاب علينا البعض بأن الضربة وقعت فى شهر يناير وأصبحت تاريخا، وأنه لا يجوز أن نتناول قصة صحفية حدثت قبل صدورنا، كأن تاريخ كل صحيفة يبدأ يوم مولدها. وأدهشنا أن المعترض لم ينشر القصة، إن كان قد علم بها، فى صحيفته التى كانت تصدر وقت وقوعها، ولعل من عاب علينا النشر نسى أن أعظم ضربة مهنية لصحيفة الواشنطن بوست الأمريكية المعروفة بووترجيت فى السبعينيات نشرت بعد وقوعها، وقصة إيران جيت وعشرات القصص الصحفية المثيرة والمهنية كشف النقاب عن بعضها بعد وقت طويل من وقوعها، ونال الصحفيون الذين كشفوها أرفع الجوائز الصحفية فى الولايات المتحدة.
لكن الذين لم يقدروا على الصمت وحاولوا تشويه الانفراد كانوا أفضل من هؤلاء الذين صمتوا وتجاهلوا كأنهم ليسوا أمام قصة صحفية مثيرة وخطيرة كشفتها صحيفة وليدة، ومن ملامح أهمية القصة أنها وقعت على طرف من أطراف الأمن القومى المصرى والعربى.. إلا أن التجاهل والصمت سياسة باتت سائدة فى كثير من المواقع المصرية، حيلة البليد، ربما، حيلة العاجز ربما، حيلة من لا يستطيع ربما.. لكن الأكثر إدهاشا أن الذين أنكروا قصتنا بالتشويه الساذج، والذين كرهوا قصتنا بالصمت وبالتجاهل، عاد بعضهم واعترف بالغارة الجوية حين كشفت عنها مصادر البنتاجون الأمريكية ومحطات التليفزيون ووكالات الأنباء العالمية أنباء الغارة الجوية على شرق السودان، ونشرت صحف تعقيبا لإيهود أولمرت، وفعلت ذلك دون الإشارة إلى أن «الشروق» صاحبة السبق والانفراد على مستوى الصحافة العالمية والعربية والمصرية فى الكشف عن تلك القصة الخبرية المثيرة التى حاول القائمون بها التكتم عليها طوال ثمانية أسابيع.. باعتبار أننا فى محيط المهنة بمصر نرضى بالسبق الصحفى الأجنبى ولو سبقنا بمسافة تساوى مابين الأرض والقمر، ولكننا لا نقبل أن يسبقنا زميل بمتر واحد.
إنها المرة الأولى منذ ما يقرب من الـ30 عاما التى تنقل الصحافة ومحطات التليفزيون ووكالات الأنباء العالمية قصة صحفية عن جريدة مصرية.. هكذا كانت «الشروق» الوليدة حديث العالم صباح الخميس الماضى. وكان هذا الحديث فى رأى أسرة التحرير كلها انتصارا للمهنة، وليس انتصارا على جريدة منافسة أو على زملاء المهنة.. الغارة الجوية على شرق السودان بكل تفاصيلها وتداعياتها لم تكن فوزا لنا وهزيمة لغيرنا، وإنما القصة كانت ردا على هؤلاء الذين سألونا ألف مرة: من أنتم.. فكنا نرد بمنتهى البساطة: إننا صحفيون؟!
وللأسف منذ سنوات تلعب الصحافة المصرية فى موقعين مختلفين.. الأول هو حديقة الحكومة وجنة لجنة السياسات. والثانى سلم نقابة الصحفيين وسلالم مجلس الدولة والنقابات حيث الوقفات الاحتجاجية الإضرابات. الصحافة المصرية منقسمة بين مؤيد وبين معارض. بين متفائل وبين متشائم. بين الحياة التى أصبح لونها بمبى وبين الحياة التى أصبحت سوداء.. وأصحاب السؤال: من أنتم نسوا أن الملعب والموقع الثالث الأهم والأبقى هو ملعب الناس وموقع الحقيقة.. فالصحافة خبر وحدث وعرض للحقيقة وكل جريدة عليها رسالة نحو وطنها ونحو قارئها والصحافة لها دورها الثقافى والتنويرى.. وتلك هى رسالة الصحافة منذ صدرت أول جريدة عربية وهى التنبيه عام 1800 وأصدرها نابليون بونابرت.. والصحافة هى التى قال عنها نابليون: «لا أخشى ألف مدفع، وألف جندى، بقدر ما أخشى لسان صحفى أو مقال جريدة». وأيضا الصحافة هى التى قال عنها قيصر روسيا: «أيها القلم كم أنت جميل.. لكنك كالشيطان فى مملكتى»؟!
ونحن نرجو ونحلم أن نكون هذا القلم الجميل.. ولكن نحن أيضا هذا الشيطان فى مملكة القيصر!