المحاكمة والمساءلة فى كشف آليات الفساد السياسى
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
الأربعاء 27 أبريل 2011 - 10:43 ص
بتوقيت القاهرة
لقد أصبح واضحا للمواطنين أن الحركة الثورية التى اندلعت فى مصر يوم الخامس والعشرين من يناير الماضى قد انتقلت خلال شهر أبريل إلى مرحلة جديدة تنبئ بالخروج الأكيد من مسار النظام السياسى السابق الذى استهان بمصر والمصريين، وأهدر إمكانياتهم، وتسبب لهم فى مشكلات هائلة على الأصعدة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، مشكلات لم يخفها عن الأعين إلا القمع، والتآمر، والإهمال.
بعد فترة من التردد، لم يصبح أحد محصنا ضد التحقيق الذى يمكن أن يفضى إلى المحاكمة، بما فى ذلك رئيس الجمهورية السابق. فى البداية كانت تحقيقات النيابة العامة منصبة على اتهامات بالتربح، والكسب غير المشروع، والفساد المالى، وحدها.
غير أن التحقيقات اتسعت فى الأسبوعين الأخيرين لتشمل جرائم قتل وإصابة المتظاهرين فى شهرى يناير وفبراير الماضيين.
هذا تطور إيجابى لا شك فيه، ففى القبض على الصف الأول، بعد الصف الثانى، من مسئولى النظام المتهاوى، عبرة لكل من سيشترك فى حكم مصر، فى المستقبل القريب والبعيد.
ومع ذلك، فإن هذا غير كاف.
المطلوب الآن، وينبغى الإلحاح عليه، هو التحقيق فى آليات الفساد السياسى. لقد قيل، وربما كان فى ذلك شىء من الحق، أن قانون العقوبات لا ينص على عقوبة للإفساد السياسى لأنه لا توجد فيه جريمة بهذا الاسم.
غير أن المطلوب فى شأن الفساد السياسى ليس هو بالضرورة التحقيق الذى يفضى الى الاتهام، ثم المحاكمة، ثم إنزال العقوبة بالمذنبين. المنشود هو تحقيق بغرض المساءلة، يكشف للشعب كيف أمكن للمسئولين عن النظام والممارسين لوظائفه أن يستهينوا بالمصريين، وأن يهدروا إمكانياتهم، وأن يزوروا إراداتهم، وأن يخلقوا لهم المشكلات، وأن يتقاعسوا عن حلها.
هذا الكشف، بالإضافة إلى أحكام القضاء فى جرائم القتل والفساد المالى، من شأنه أن يكون رادعا أكيدا يحمى مستقبل مصر و يسمح ببنائه على أسس صلبة محصنة.
نريد أن نعرف كيف دبرت فى كواليس الحزب الوطنى الديمقراطى المنحل التعديلات الدستورية لسنتى 2005 و2007، كيف نشأ التفكير ونفذ فى تفصيل أحكام دستورية على مقياس شخص واحد.
بل نريد أن نفهم فى أى ذهن نشأت فكرة توريث حكم مصر وكيف اكتسبت أشخاصا عملوا على تنفيذها بجد وإخلاص، هذا من أجل الحفاظ على وضعه فى صدارة خادعة للمسرح السياسى، وذاك أملا فى مستقبل مشرق، واعدا فى مزاياه المالية أو المعنوية، وإن انعدمت فى حقيقة الأمر قوته السياسية.
وربما عدنا فى تفكيك آليات التسلط إلى الكشف عن كيفية إخفاء رئيس للجمهورية فى سنة 1971 لمشروع للدستور عكف على إعداده نفر من كبار الأساتذة، ليخرج من جعبته بفعل من أفعال الحواة مشروعا مختلفا يستفتى عليه الشعب بطرق الاستفتاء المعهودة لديه!
للتخلص نهائيا من النظام السلطوى، من المفيد أن نعرف كيف كانت العلاقة بين «الحزب» والحكومة. من كان يضع السياسات ويقررها؟ الادعاء الفارغ بأن الحكومة حكومة الحزب مردود عليه، فالدستور كان ينص على أن الحكومة، وليس الحزب، تشترك فى وضع السياسة العامة للدولة.
ونريد أن نفهم مدى سلطة رئيس الوزراء على وزرائه، هل كانت له سلطة على كل وزرائه، أم كان أولئك المعنيون بالاقتصاد والأراضى والثروة خارجين تماما عن طوعه؟ وبالطبع، سيكون مفيدا جدا التعرف على معايير اختيار رئيس الجمهورية لرؤساء وزرائه.
أليس من حق الشعب أن يعرف كيف نشأت فكرة أن يعين وزير للسياحة هو صاحب شركة للسياحة، ووزير للإسكان هو صاحب شركة للتعمير، ووزير للزراعة هو صاحب شركة لتجارة القطن، ووزير للنقل هو صاحب مصالح خاصة فى قطاع النقل، ووزير للصحة هو صاحب مستشفى خاص، ووزير للتجارة الخارجية هو صاحب مصالح خاصة فى التجارة الخارجية؟
ليس معنى التساؤل أن هؤلاء الوزراء قد أذنبوا بالضرورة، ولكن أليس مجرد تعيينهم سلوكا شاذا فى أى نظام سياسى، يفتح الباب على مصراعيه أمام إساءة استخدام السلطة؟
كيف أمكن لأشخاص لا سابقة لهم على الإطلاق فى السياسة ولم يكن معروفا عنهم أى اهتمام بالشأن العام أن يصعدوا بين عشية وضحاها إلى أعلى مراتب الحياة الحزيبة والتشريعية، بل وأن يتولوا مسئولية أهم اللجان فى مجلس الشعب، حتى وإن كان فى تولى مسئولية هذه اللجان تنازع صارخ مع مصالحهم الخاصة؟
نريد أن نفهم كيف كانت تفتح وتغلق أبواب المناقشات فى مجلس الشعب، وكيف كانت طلبات الاستجواب تحفظ أو لا تتخذ قرارات بشأنها، وكيف أعفيت الحكومات بالتالى من أى رقابة على أدائها. ومن المهم للشعب أن يعرف كيف كانت تعمل سيئة الذكر لجنة الأحزاب، وكيف تجمعت لديها شجاعة رفض تأسيس كل الأحزاب التى شكت فى أنه يمكن أن يكون لها أتباع.
أليس شديد الأهمية أن نعرف كيف كان الأمن يخترق الأحزاب السياسية وكيف كان يفسد بالتالى الحياة الحزبية التعددية ويفرغها من مضمونها؟ وكيف كان يتداخل فى الحياة الجامعية فيخل بالعملية التعليمية وبالتنشئة الأكاديمية؟ هل من شك فى أهمية أن نعلم من المسئولين عن رفض الأمن تنفيذ قرارات النيابة وأحكام القضاء.
وهو ما أدى إلى أن يقضى المشتبه فيهم، والمحكوم ببراءتهم، ومن نفذوا الأحكام الصادرة بحقهم، فترات طال بعضها بدون أى مسوغ من القانون؟ أليس من المهم أن نعرف دقائق تزوير أجهزة الأمن للانتخابات، ومنعها لمجموعات من المواطنين من ممارسة حقهم فى الانتخاب؟
من حق الشعب أن يعرف كيف نشأ الاحتقان الطائفى، وكيف تغذى، وكيف ترك يترعرع، وكيف أن الدولة لم تراجع نفسها فى أى وقت من الأوقات، بل تركته يأتى على السلم الاجتماعى ويهدد نسيج المجتمع بالتمزق.
هذه التساؤلات وغيرها ليست عودة إلى الوراء بعد أن بدأت مصر فى الانعتاق من قيودها. إن فى الردود عليها تفكيكا نهائيا لآليات التسلط وهو ما سيكشف للمواطنين أن العيب كل العيب كان فى الإمعان فى إساءة استخدام السلطة، وليس فى وجود السلطة ذاتها.
هذا عظيم الأهمية فى وقت نشرع فيه فى بناء سلطة صحية وأخلاقية تحترم حقوق المواطنين وتصونها. هى سلطة نحتاجها وهى صلب كل نظام ديمقراطى سليم.