تفجيرات بوسطن .. وجرائم هذا الزمان
جلال أمين
آخر تحديث:
السبت 27 أبريل 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
••كان ظريفا من الرئيس أوباما أن يصدر تعليماته (أو هكذا فهمنا من وسائل الإعلام) للجهات المسئولة عن التحقيق فى حادث الانفجارات المشئومة بمدينة بوسطن، بأن تتروى فى الأمر، فلا تتسرع بإلقاء التهم على أشخاص دون أن تتوفر أدلة كافية لاتهامهم.
كان هذا ظريفا منه، لأن من المؤكد أن من الظلم التسرع فى مثل هذه الأمور الخطيرة، واتهام بعض الناس واعتقالهم دون دليل قوى. ولكن لابد أن يثير هذا التصريح بعض التساؤلات: فأولا: ألا يبدو غريبا بعض الشىء أن يحتاج رئيس دولة كالولايات المتحدة، لها هذا التاريخ العريق فى الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان، إلى إصدار مثل هذا التنبيه على رجاله، بأن يفعلوا شيئا كنا نظن أنه مفروغ منه ولا يحتاج إلى أى تذكرة، وهو عدم التهور باتهام الناس بلا دليل؟
وثانيا: هل لصدور هذا التنبيه بصدد حادث التفجير فى بوسطن، علاقة بما حدث منذ 12 عاما، عندما وقعت تفجيرات البرجين الشهيرين نيويورك ومبنى وزارة الدفاع فى واشنطن، فأعلن فورا عن اتهام أشخاص كلهم من العرب، وعلى الأخص من السعوديين والمصريين، ثم ظهر أن بعض هؤلاء المتهمين لا علاقة لهم البتة بالحادث؟ هل كان من المفيد يا ترى إلصاق تهمة تفجيرات 11 سبتمبر 2001 بالعرب المسلمين تمهيدا لغزو العراق واحتلاله؟
فى حادث بوسطن، تم القبض على طالب سعودى جاء للدراسة فى بوسطن، إذ رؤى وهو يجرى بعد الانفجار مباشرة. ثار الشك فيه لأنه كان يجرى ولا يسير بتؤدة، مما يثير شبهة أنه بعد أن ألقى القنبلة جرى خوفا من أن يقبض عليه. ولكنه لما سُئل عن ذلك قال إنه جرى للنجاة بنفسه من آثار انفجار القنبلة، ومن ثم أُخلى سبيله. كان هذا طريفا منهم أيضا: أن يُخلوا سبيل طالب سعودى يحاول أن ينجو بنفسه مثل أى شخص عاقل آخر، من آثار انفجار قنبلة، وألا يعتبروا جرى شخص سعودى شيئا مختلفا عن جرى أى شخص له جنسية أخرى. ولكن هل يفصح مجرد القبض عليه ابتداء عن سوء نية المحققين فى مثل هذه الأحداث؟
ولكن هناك شىء أهم من هذا كله، ولابد أن يلفت النظر، فى تكرار أحداث من هذا النوع خلال العشرين سنة الأخيرة، منذ أن سمعنا عن شىء اسمه تنظيم «القاعدة»، وكثر الكلام عن «الإرهاب». فمنذ ذلك الحين كثرت التفجيرات والجرائم التى لا يظهر لها دافع واضح، ولا يعرف من الذى يمكن ان يستفيد منها. فإذا كان الغرض هو «الإرهاب»، فإن الإرهابى نادرا ما يقول لنا من الذى يريد إرهابه وتخويفه بالضبط؟ وما الذى يغضبه فيدفعه إلى ارتكاب جريمة؟ وما الذى يريده أو يطالب بتنفيذه حتى يتوقف عن إرهابه؟ كلا، ليس هناك إلا «الإرهاب»، والفاعل دائما (أو تقريبا دائما) مجهول، وكذلك هدفه، من ثم لا يبقى أمامنا إلا الحزن على الضحايا الأبرياء، ولا يبقى أمام السلطات المسئولة عن الأمن إلا اتهام مجموعة أخرى من الأبرياء.
•••
هذا هو ما أقصده «بجرائم هذا الزمان» كنا فى الماضى (بقدر ما تسعفنى الذاكرة) إذا وقعت جريمة شخصية أو سياسية، نعرف عادة هدفها ومن المستفيد منها. وحتى إذا فشلنا فى تحديد شخصية المجرم فإننا كنا نعرف سبب ارتكابه لها، كالسرقة أو الانتقام أو التخلص من سياسى مكروه.. إلخ، وذلك إما بصدور اعتراف من المجرم بعد القبض عليه أو من الملابسات المحيطة بالجريمة. أما الآن، فمن الذى يمكن ان يستفيد من تفجير قنابل بوسطن؟ ومن الذى استفاد من تفجيرات 11 سبتمبر 2011، أو من تفجير القطارات فى إسبانيا أو فى لندن بعد حوادث 11 سبتمبر بقليل؟ لا أحد طالب بعض المطالب قبل أو بعد هذه التفجيرات، فهدد بارتكاب الجريمة أو بارتكاب المزيد من أمثالها لو لم تنفذ طلباته، ولا ظهر لنا أى شخص أو جماعة حققوا أى فائدة من وقوعها. لا الإسلام استفاد شيئا ولا أحد من العرب. أقصى ما حصلنا عليه، بخصوص تفجيرات 11 سبتمبر، ظهور صور مضحكة لشخص يدعى «بن لادن»، على شاشة التليفزيون التابع لدولة صديقة صداقة حميمة للولايات المتمدة، يهدد الولايات المتحدة بمزيد من التفجيرات، إذا لم....؟ إذا لم تفعل ماذا؟ لم يفصح الرجل، ولا أحد من أنصاره، ويا ليته كان قد أفصح، حتى ىصبح من الممكن للحكومة الأمريكية أن تنظر فى تلبية طلباته. ولكنه سكت، حتى قبض عليه بعد سنوات كثيرة عجزت خلالها أكثر وأقدر مخابرات فى العالم عن معرفة مكانه، ثم ظهر أنه كان مختبئا فى دولة صديقة هى الأخرى للولايات المتحدة، ثم تم التخلص منه بطريقة مدهشة أيضا، ورأينا على شاشة التليفزيون وزيرة الخارجية الأمريكية وحولها مسئولون كبار وهم يتابعون لحظة بلحظة، وقائع القبض عليه وقتله. وقيل ان جثته ألقيت فى البحر، خوفا من أن يحوله أنصاره إلى «اسطورة»، وكأن مجرد إلقائه فى البحر يمنع من ذلك.
•••
إن تكرار مثل هذه التفجيرات والجرائم الغريبة التى لا يبدو لها صاحب، ولا يعرف من الذى يمكن ان يستفيد منها، فلا يعرف إلا ضحاياها، لابد أن يثير شكوكا قوية حول المرتكبين الحقيقيين لهذه الجرائم. هل من الممكن أن يكونوا هم الممسكون بالسلطة أنفسهم؟ ولكن ما الذى يمكن أن يستفيده الممسكون بالسلطة من جرائم تهدد الاستقرار، وتشيع الخوف بين الناس، وتقضى على حياة بعض الأبرياء، وتضر بالاقتصاد.. إلخ؟ الإجابة هى أن الفائدة قد تكن أكبر بكثير مما تظن. ان إشاعة الخوف بين الناس يمكن عن طريقها تبرير أى قيود قد يحب أصحاب السلطة فرضها، لأغراض لا علاقة لها بمكافحة هذه الجرائم، بل تبرر استمرار نفس الفئة الحاكمة فى الحكم، وتبادل أفراد نفس الطبقة مقاعد الحكام، مهما اختلفت أسماء الأحزاب. وإشاعة الخوف بين الناس يفيد أيضا فى تبرير مغامرات الطبقة الحاكمة فى خارج البلاد، والهجوم على بلاد صغيرة لا حول لها ولا قوة، بغرض استغلال خيراتها، ولكن يتم ذلك باسم مكافحة الإرهاب، خاصة إذا ادعى أثناء ذلك فإن هؤلاء «الإرهابيين» يكرهون نمط الحياة الأمريكى أو يريدون حرمان الأمريكيين منه. وإشاعة الخوف مفيدة أيضا فى تبرير الانفاق الباهظ على السلاح باسم الإرهاب أيضا، والذى لا يستفيد منه إلا صانعو الأسلحة أنفسهم وتجارها.
•••
هل بمثل هذا التفسير، يمكن أن نفسر الفرق بين ظروف مقتل الرئيس الأمريكى إبراهام لنكولن فى 1865، وظروف مقتل الرئيس الأمريكى جون كينيدى بعد نحو مائة عام؟ ففى الجريمة الأولى، قبض على المجرمين وحوكموا، وتم إعدامهم شنقا وعرف الجميع الدافع إلى الجريمة، وهو العمل على إسقاط الحكومة الاتحادية التى أرادت إلغاء نظام الرق. أما مقتل الرئيس كينيدى فى 1963، فلازلنا حتى الآن، رغم مرور نصف قرن على وقوع الجريمة، لا تعرف الدافع إليه، ولا الدافع إلى قتل من قتله، ولا المستفيد من هذا القتل أو ذاك؟
نحن نعيش فى عصر الأشياء المدهشة فيه كثيرة. وتتضاءل فيه شيئا فشيئا نسبة ما يقال لنا من حقائق وتزداد الأكاذيب. ربما كان قهر الأقلية للأغلبية شيئا حتميا فى كافة العصور. فى ظل الدكتاتورية يتم القهر باستخدام جهاز الشرطة وضرب المقهورين وسجنهم، وربما تعذيبهم، أما الآن، فى عهد الديمقراطية الرائعة، فإن القهر يتم بطرق أخرى، منها التخويف المستمر للناس.