لماذا أصبح «الحشاشين» عملًا مزعجًا؟
محمود عبد الشكور
آخر تحديث:
السبت 27 أبريل 2024 - 9:50 م
بتوقيت القاهرة
كتبت منذ أيام تدوينة طويلة حول الأفكار الخطيرة فى حلقات مسلسل «الحشاشين»، الذى أعتبره مسلسل أفكار بالأساس، وهذه الأفكار هى التى استدعت حسن الصبّاح وطائفته الضالة، وليس العكس، وبالتالى فإن تلك الحلقات باذخة الإبهار والإتقان، كتابة وتنفيذًا، أهمّ بكثير من أن تكون موجهة ضد تنظيم أو جماعة بعينها، لكنها ضد الأفكار المنحرفة والدموية على وجه العموم، أمس واليوم وغدًا.
قلت فى التدوينة إن الأمر المزعج بالنسبة للبعض، ليس، كما قيل، فى الإسقاط على تنظيم معين، رأى نفسه فى مرآة العمل على طريقة «يكاد المريب يقول خذونى»، فالأمر عندى أخطر من ذلك بكثير، لأن المسلسل يناقش «طريقة تفكير»، و«آليات سيطرة وتوجيه»، قبل أى شىء آخر، وهنا خطورته الكبرى.
العمل يضرب فى الحقيقة ثلاث أفكار محورية عاشت عليها تنظيمات كتيرة سياسية ودينية وقومية عبر التاريخ، وفى منطقتنا تحديدًا، وليس غريبًا أن رواية «آلموت» الشهيرة استلهمت حكاية حسن الصباح ارتباطًا بصعود الفاشية فى أوروبا، دون أى سبب آخر، وليس مستغربًا أيضًا أن كثيرين ممن شاهدوا المسلسل، لم ينتبهوا إلى أن «الحشاشين» جماعة شيعية، وليست سنية أصلًا، ومع ذلك بدت الأحداث معاصرة تمامًا، بعد أن ذابت الاختلافات مع واقعنا السنى، الذى استنسخ حرفيا أساليب الجماعات الباطنية الشيعية، المتطرفة والدموية.
الفكرة الأولى اللى ناقشها «الحشاشين» هى امتلاك الحقيقة المطلقة، والمزج بينها وبين شخصية الإمام، وبالتالى فإن كل من لا يؤمن بها أو بالإمام، فهو كافر أو مارق أو خائن، فالإمام (أو زعيم التنظيم) هو الفكرة، وهو الدين نفسه، والمذهل أن «الدوتشى» كان رمزًا لإيطاليا، و«الفوهرر» كان أيضًا تجسيدًا لألمانيا نفسها.
الفكرة الثانية هى السيطرة المطلقة على الأتباع، وهو أمر فى صميم الفكرة الفاشية، أى أن «الحشاشين» ليس فقط عن الطائفة، أو حكاية تدخين الحشيش، لكنه عن كل «المغيبين» الذين يسلّمون عقولهم للآخرين تحت أى شعارات، ليفكروا ويقرروا ويختارو نيابة عنهم، فيعطّل بعض الحمقى إرادتهم، ويقبلون أن يتحولوا إلى مجرد أدوات.
الفكرة الثالثة هى تقديم رواية واحدة «معتمدة» عن الماضى، أو ما أسميه ب «خصخصة التاريخ».
كل التنظيمات التى تحتكر الحقيقة تصنع نصًا تاريخيًا مغلقًا معتمدًا لا يأتيه الباطل، بل تضع تفسيرًا واحدًا مقدسًا للتاريخ، هو بالطبع التفسير المناسب لأهدافها السياسية، وهى جماعات «ماضوية»، حتى فى الأسماء والمصطلحات والألقاب، وجزء أساسى من شعاراتها استعادة «أمجاد الماضى»، تمامًا كما فعلت النازية والفاشية، وبالتالى فإن أى قراءة انتقادية لهذا التاريخ، تضرب أساسها الفكرى فى الصميم.
مفاهيم مثل «الخلافة» و»الإمامة»، بل والفقه والشخصيات التاريخية، هى عندهم مفاهيم جامدة وثابتة، لا تحتمل الاجتهاد أو القراءة المختلفة، لكن «الحشاشين» فعل العكس بكسر هذا الاحتكار، وبتقديم قراءة أخرى للتاريخ.
والأخطر أنه جعل الناس تبحث عن مراجع التاريخ بنفسها، حتى دون المرور بكهنوت المؤرخين، فكثرت الأسئلة وعبارات البحث عن شخصيات المسلسل ووقائعه، كما أدى تبسيط الحوار إلى جعل شخصيات مثل الصبّاح ونظام الملك وعمر الخيام والغزالى مثل أى شخصيات درامية شعبية، يتناقش الناس حول مواقفها فى البيوت وعلى المقاهى!
يعنى ذلك أن البضاعة المحتكرة أصبحت مشاعة، مما فتح باب الجدل، وأعاد إلى الضوء كل المسكوت عنه، سواء بسبب بشاعته، أو نتيجة مخالفته لما تم تكريسه من أساطير وأباطيل.
أساس أى تنظيمات فكرية مغلقة يبدأ بفكرة «خصخصة الحقيقة والتاريخ»، ليس فى الدين فحسب، لأنه نفس تكنيك الفكرة «الفاشية»، كما ذكرت، مهما تنكرت تحت أقنعة وشعارات دينية أو قومية أو سياسية، لكن كشف الأقنعة الدينية بالذات أوجع الكثيرين على وجه الخصوص، لأن اللعبة ما زالت حاضرة، وتمارس بفجاجة، مستغلة حالة تغييب العقول، وغياب أى ثقافة دينية أو تاريخية حقيقية، وعدم وجود فكر نقدى من الأساس، فى ظل نظام تعليمى تلقينى بائس.
هذا بالضبط سر خطورة المسلسل، ذلك أنه ناقش الأسس الواهية التى تقوم عليها طريقة تفكير بأكملها، عبر إعادة قراءة انتقادية للتاريخ، وكشف المسكوت عنه، وقام المسلسل أيضًا بعملية تفكيك شاملة للأساطير و«الأباطيل» المؤسسة لأى فرد أو فئة أو طائفة، تستحلّ القتل والعنف باسم الدين، وتحت راية الأخلاقى والمقدّس.
الأهم من ذلك، أن المسلسل لم يشكك فى الإيمان، ولا حتى فى النوايا، بل إن حسن الصبّاح كما شاهدناه، فقيه مؤمن جدًا بأفكاره، وبالتالى ليست المسألة فى الصدق والحماس والعاطفة والإيمان، ولكن فى طبيعة ما تؤمن به، ومدى صحته أو ضلاله، فالطريق إلى النار محفوف بالنوايا الطيبة، وإبليس فى القرآن كان مخلصًا جدًا فى الدفاع عن منطقه، وكان مؤمنًا للغاية بأفضليته وتفوقه، لكن هذا الحماس، وذلك الإيمان، لم يشفعا له.
كسر «الحشاشين» احتكار قراءة التاريخ وتفسيره بالوكالة عن الناس، واكتشف كثيرون، حتى أولئك الذين بحثوا فقط تصيّدًا لخطأ ما هنا أو هناك، أنه ينقصهم الكثير للوصول إلى رأى ووجهة نظر، واكتشف الكثيرون كذلك أن الأسئلة دومًا أكثر من الإجابات، وأن الحديث فى الدين بالذات، لا يجب أن يؤخذ بخفّة، وأن السير وراء رجل ضال ومضلّ، لا يعفى من المسئولية الفردية، وأنه لا يمكن إصلاح الفساد، وإزالة الظلم، بفساد أكبر، وبظلم أشد.
مسلسلات الأفكار، و«الحشاشين» أحدها، تعيد الاعتبار إلى التفكير، وتجعل كل شىء خاضعًا للمراجعة والمناقشة، تسترد العقل ممن صادروه لصالحهم، وتثير جدلًا وأسئلة وحوارًا على مختلف المستويات، وكلها أمور لا تزعج إلا من أراد احتكار التفسير، ومنع الاجتهاد إلا لحفنة مختارة، واستخدام الدين، وسلطته الروحية العظيمة، كأداة للوصول إلى سلطة دنيوية بحتة. لكل ذلك صار «الحشاشين» خطيرًا ومزعجًا.
ولكل ذلك كنت سأندهش حقًّا لو مرّ هذا المسلسل مرور الكرام.